logo
يتم التشغيل بواسطة Blogger.
RSS

الجمعة، 17 أغسطس 2012

باب فضائل الفقراء

باب فضائل الفقراء
(قال الفقيه) أبو الليث السمرقندي: حدثنا أحمد أبو بكر الجرجاني حدثنا بن عبد اللَّه عن سالم بن أبي سالم عن خارجة بن مصعب عن زيد بن أسلم عن أنس بن مالك رضي اللَّه تعالى عنه قال "بعث اللَّه الفقراء إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم رسولا فقال يا رسول اللَّه: إني رسول الفقراء إليك، فقال مرحبا بك وبمن جئت من عندهم جئت من عند قوم أحبهم الله، قال يا رسول اللَّه يقول الفقراء: إن الأغنياء قد ذهبوا بالخير كله هم يحجون ولا نقدر عليه ويتصدقون ولا نقدر عليه إذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخرا، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بلغ عني الفقراء أن من صبر منكم واحتسب فله ثلاث خصال ليس للأغنياء منها شيء، أما الخصلة الواحدة أن في الجنة غرفة من ياقوتة حمراء ينظر إليها أهل الجنة كما ينظر أهل الدنيا إلى النجوم لا يدخلها إلاّ نبي فقير أو شهيد فقير أو مؤمن فقير. والثانية يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو مقدار خمسمائة عام يتمتعون فيها حيث شاءوا، ويدخل سليمان بن داود عليهما السلام الجنة بعد دخول الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأربعين عاما بسبب الملك الذي أعطاه الله. والخصلة الثالثة إذا قال الفقير سبحان اللَّه والحمد لله ولا إله إلاّ اللَّه والله أكبر مخلصا ويقول الغني مثل ذلك مخلصا لم يلحق الغني الفقير وإن أنفق الغني معها عشرة آلاف درهم وكذلك أعمال البرّ كلها. فرجع إليهم الرسول فأخبرهم بذلك فقالوا رضينا يا رب رضينا يا رب" قال: حدثنا محمد بن الفضل حدثنا محمد بن جعفر حدثنا إبراهيم بن يوسف حدثني يحيى بن سليمان عن عمران بن مسلم قال: بلغني أن أبا ذر قال أوصاني خليلي صلى اللَّه عليه وسلم بسبع لم أتركهن ولا أتركهن: أوصاني بحب المساكين والدنوّ منهم، وأن أنظر إلى من هو أسفل مني ولا أنظر إلى من هو فوقي، وأن أصل رحمي وإن أدبرت وقطعت، وأن أستكثر من قول لا حول ولا قوة إلاّ بالله فإنها من كنوز البرّ، وأن لا أسأل الناس شيئاً، وأن لا أخاف في اللَّه لومة لائم، وأن أقول الحق وإن كان مرّا، وكان أبو ذر رضي اللَّه تعالى عنه إذا سقط من يده سوطه يكره أن يقول لأحد ناولنيه" وبهذا الإسناد قال: حدثنا إبراهيم حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن خيثمة قال: تقول الملائكة يا رب عبدك الكافر بسطت له الدنيا وتزوى عنه البلاء فيقول للملائكة اكشفوا عن عقابه، فإذا رأوه قالوا يا رب لا ينفعه ما أصاب من الدنيا، وتقول يا رب عبدك المؤمن تزوى عنه الدنيا وتعرضه للبلاء، فيقول اكشفوا عن ثوابه فإذا رأوه قالوا يا رب ما يضره ما أصابه من الدنيا" قال حدثنا محمد بن الفضل بإسناده عن أبي ذر الغفاري أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال "المكثرون هم الأقلون إلاّ من قال بالمال هكذا وهكذا أربع مرات وقليل ماهم".
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: معنى قول النبي صلى اللَّه عليه وسلم "المكثرون هم الأقلون" يعني إذا كان الغنىّ من أهل الجنة فهو أقل درجة من الفقير وإن كان من أهل النار فهو في الدرك الأسفل من النار إلا من قال بالمال هكذا وهكذا: يعني يتصدق عن يمينه ويساره ومن خلفه ومن بين يديه "وقليل ما هم" يعني قلما يوجد مثل هذا في الأغنياء لأن الشيطان يزين لهم أموالهم في الدنيا، وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "إن الشيطان يقول لن ينجو الغني من إحدى ثلاث: إما أن أزينه في عينه فيمنعه من حقه، وإما أن أسهل عليه سبيله فينفقه في غير حقه، وإما أن أحببه في قلبه فيكسبه بغير حقه"، وروى عن أبي الدرداء رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: "بعث النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأنا تاجر فأردت أن تجتمع لي التجارة مع العبادة فلم تجتمعا، فرفضت التجارة وأقبلت على العبادة، فو الذي نفسي بيده ما أحب أن لي حانوتاً على باب المسجد لا تخطئني فيه صلاة فأربح كل يوم أربعين ديناراً فأتصدق بها في سبيل الله، قيل يا أبا الدرداء: لم تكره ذلك؟ قال لسوء الحساب". وروى عن أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "اللهم من أحبني فارزقه العفاف والكفاف، ومن أبغضني فأكثر ماله وولده" وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "الفقر مشقة في الدنيا مسرة في الآخرة والغنى مسرة في الدنيا مشقة في الآخرة" وروى أنس بن مالك رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "إن لكل أحد حرفة وحرفتي اثنتان الفقر والجهاد فمن أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد أبغضني".
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: ينبغي للمسلم أن يحب الفقر ويحب الفقراء وإن كان غنياً لأن في حب الفقراء حب الرسول صلى اللَّه عليه وسلم وقد أمر اللَّه تعالى رسوله بحب الفقراء والدنوّ منهم وهو قوله تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الآية: يعني احبس نفسك مع الفقراء الذين حبسوا أنفسهم للعبادة، وكان سبب نزول هذه الآية أن عيينة بن حصن الفزاري وكان رئيس قومه فدخل على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وعنده سلمان الفارسي وصهيب بن سنان الرومي وبلال بن حمامة الحبشي وغيرهم من ضعفاء الصحابة رضي اللَّه عنهم وعليهم ثياب خلقة قد عرقوا فيها، فقال عيينة أن لنا شرفاً فإذا دخلنا عليك فأخرج هؤلاء فإنهم يؤذوننا بريحهم واجعل لنا مجلساً فنهاه اللَّه تعالى عن إخراجهم فقال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالغَدَاةِ وَالعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} يعني يصلون الصلوات الخمس ويطلبون رضاه، {وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني لا تتجاوزهم ولا تحقرهم طلب زينة الحياة الدنيا. قال: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا}ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه يعني لا تطع من أعرضنا قلبه عن ذكرنا عن القرآن {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} يعني ابتع هوى نفسه في بغض الفقراء {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}.
يعني أمره كان ضائعاً باطلاً فقد أمر اللَّه تعالى نبيه صلى اللَّه عليه وسلم. مجالسة الفقراء والقرب منهم وهذا الأمر لجميع الفقراء المسلمين إلى يوم القيامة، فينبغي للمسلم أن يحب الفقراء ويبرهم ويتخذ عندهم الأيادي فإنهم قوّاد اللَّه يوم القيامة وترجى شفاعتهم. وروى الحسن رحمه اللَّه تعالى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال (يؤتى بالعبد يوم القيامة فيعتذر اللَّه تعالى إليه كما يعتذر الرجل إلى الرجل في الدنيا، فيقول جل سلطانه وعظم شأنه وعزتي وجلالي ما زويت الدنيا عنك لهوانك عليّ ولكن لما أعددت لك من الكرامة والفضيلة أخرج يا عبدي إلى هذه الصفوف وانظر من أطعمك فيّ أو كساك فيّ يريد بذلك وجهي فخذ بيده فهو لك، والناس يومئذ قد ألجمهم العرق، فيتخلل الصفوف وينظر من فعل ذلك به فيأخذ بيده فيدخله الجنة، وروى الحسن رحمه اللَّه تعالى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "أكثروا معرفة الفقراء واتخذوا عندهم الأيادي فإن لهم دولة: قالوا يا رسول اللَّه وما دولتهم؟ قال إذا كان يوم القيامة قيل لهم انظروا من أطعمكم كسرة أو سقاكم شربة أو كساكم ثوباً فخذوا بيده ثم امضوا به إلى الجنة".
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: اعلم أن للفقير خمس كرامات: إحداها أن ثواب عمله أكثر من ثواب عمل الغني في الصلاة والصدقة وغير ذلك، والثانية إنه إذا اشتهى شيئاً ولم يجده يكتب له الأجر، والثالثة: إنهم سابقون إلى الجنة، والرابعة: إن حسابهم في الآخرة أقل، والخامسة: إن ندامتهم أقل لأن الأغنياء يتمنون في الآخرة لو كانوا فقراء ولا يتمنى الفقير أن لو كان غنياً وفي كل هذا قد جاءت الآثار. وروى زيد بن أسلم رضي اللَّه تعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "درهم من الصدقة أفضل من مائة ألف، قيل وكيف ذلك يا رسول الله؟ قال أخرج رجل من عرض ماله مائة ألف وتصدق بها، وأخرج رجل درهم من درهمين لم يملك غيرهما طيبة من نفسه فصار صاحب الدرهم أفضل من صاحب المائة ألف" وروى عن الحسن رحمه اللَّه تعالى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم "أنه سأله بعض أصحابه إذا رأينا أشياء نشتهيها لا نقدر عليها فهل لنا فيها أجر؟ قال نعم تؤجرون إن لم تؤجروا فيها" وقال الضحاك: من دخل السوق فرأى شيئاً يشتهيه فصبر فاحتسب كان خيراً له من مائة ألف دينار ينفقها كلها في سبيل اللَّه تعالى.
(قال الفقيه) رحمه اللَّه تعالى والدليل على فضل الفقراء قول اللَّه تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} يعني أقيموا الصلاة إليّ وأّدوا الزكاة إلى الفقراء فقرن حق الفقراء بحق نفسه، ويقال الفقير طبيب الغني وقصاره ورسوله وحارسه وشفيعه، وإنما قيل طبيبه لأن الغني إذا مرض يتصدق على الفقراء فيبرأ من مرضه، وإنما قيل قصاره لأن الغني إذا تصدق عليه يدعو له الفقير فيطهر الغني من ذنوبه ويطهر ماله، وإنما قيل هو رسوله لأن الغني إذا تصدق عن والديه أو عن
أحد من أقربائه فيصل ذلك إلى الموتى فصار الفقير رسوله إلى الموتى، وإنما قيل هو حارسه لأن الغني إذا تصدق فدعا له الفقير تحصن مال الغني بدعاء الفقير. وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "ألا أخبركم عن ملوك الجنة؟ فقالوا: نعم، قال: هم الضعفاء المظلومون الذين لا يزوّجون المتنعمات ولا تفتح لهم أبواب السدد يموت أحدهم وحاجته تتلجلج في صدره ولو اقسم على اللَّه لأبره" وقال ابن عباس رضى اللَّه تعالى عنهما: ملعون من أكرم بالغنى وأهان بالفقر. وعن أبي الدرداء: ما أنصفنا إخواننا الأغنياء، لأنهم يأكلون ونحن نأكل ويشربون ونحن نشرب، ويلبسون ونحن نلبس ولهم فضول أموالهم ينظرون إليها ونحن ننظر إليها معهم، وهم يحاسبون ونحن براء منها، وعن شقيق الزاهد أنه قال: اختار الفقراء ثلاثة أشياء، والأغنياء ثلاثة أشياء: اختار الفقراء راحة النفس، وفراغ القلب، وخفة الحساب، واختار الأغنياء تعب النفس، وشغل القلب، وشدة الحساب. وروى عن حاتم الزاهد أنه قال: من ادّعى أربعا من أربع فهو مكذّب: من أدّعى حب مولاه من غير ورع عن محارمه. ومن ادعى حب الجنة من غير إنفاق ماله في طاعة اللَّه تعالى، ومن ادعى حب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من غير اتباع سنته، ومن ادعى حب الدرجات من غير صحبة الفقراء والمساكين. وقال بعض الحكماء: أربع من كن فيه فهو محروم من الخير كله: المتطاول على من تحته، والعاق لوالديه، ومن يحقر الغريب، ومن يعير المساكين لمسكنتهم. وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "ما أوحى اللَّه تعالى إلى أن أجمع المال وأكون من التاجرين، ولكن أوحى إليّ أن {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ. وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ} سبح بحمد ربك وكن من الساجدين. واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" قال: حدثنا الفقيه أبو جعفر بإسناده عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال "يا أيها الناس لا تحملكم العسرة والفاقة على أن تطلبوا الرزق من غير حله فإني سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول: اللهم توفني فقيراً ولا تتوفني غنياً واحشرني في زمرة المساكين يوم القيامة، فإن أشقى الأشقياء من اجتمع عليه فقر الدنيا وعذاب الآخرة" وروى عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه أنه أتى بغنائم من غنائم القادسية فجعل يتصفحها وينظر إليها ويبكي، فقال له عبد الرحمن بن عوف هذا يوم السرور والفرح وأنت تبكي يا أمير المؤمنين؟ قال أجل، ولكن ما أوتي هذا قوم إلا أوقع بينهم العداوة والبغضاء. وروى عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "لكل أمة فتنة وإن فتنة أمتي المال" وروى عن عبد اللَّه بن عمر رضي اللَّه عنهما عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "إن أحب الخلق إلى اللَّه الفقراء، لأنه كان أحب الخلق إلى اللَّه الأنبياء فابتلاهم بالفقر". قال حدثنا أبي رحمه اللَّه تعالى حدثنا أبو الحسن الفراء بإسناده عن الحسن البصري رضي اللَّه تعالى عنه قال "أوحى اللَّه تعالى إلى موسى بن عمران إنه يموت رجل من أحب عبادي إليّ وأحب أهل الأرض فأته وكفنه وغسله وقم على قبره، فطلبه في العمران فلم يجده ثم طلبه في الخراب فلم يقدر عليه، ثم رأى قوماً من الطيانين فقال هل رأيتم مريضاً ههنا بأمس أو ميتاً اليوم؟ فقال بعضهم رأيت مريضاً في الخربة فلعلك تريده؟ قال: نعم فذهب فإذا هو بمريض طريح وتحت رأسه لبنة فلما أن عالج نفسه سقط رأسه على اللبنة، قال فقام موسى فبكى فقال يا رب قلت إن هذا من أحب عبادك إليك فلا أرى عنده من كان يمرضه، فأوحى اللَّه تعالى إليه أن يا موسى إني إذا أحببت عبدي زويت عنه الدنيا كلها، وروى عباد بن كثير عن الحسن أنه قال: أخذ إبليس أول دينار ضرب فوضعه على عينيه وقال من أحبك فهو عبدي. وروى عبد المنعم عن إدريس عن أبيه عن وهب بن منبه أنه قال: وصل إبليس لعنه الله إلى سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام على صورة شيخ فقال له سليمان أخبرني بما أنت صانع بأمة روح اللَّه تعالى: يعني عيسى عليه الصلاة والسلام، فقال لأدعونهم يتخذون إلهين من دون اللَّه تعالى، قال فما أنت صانع بأمة محمد صلى اللَّه عليه وسلم؟ قال لأدعونهم إلى الدينار والدرهم حتى يكون ذلك أشهى عندهم من لا إله إلا الله، قال سليمان: أعوذ بالله منك، فنظر فإذا هو قد ذهب.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: الواجب على الفقير أن يعرف منة اللَّه تعالى ويعلم أنه قد صرف عنه الدنيا لكرامته عليه وأكرمه بما أكرم به الأنبياء والأولياء عليهم الصلاة والسلام ويحمد اللَّه تعالى ولا يجزع في ذلك، ويصبر على ما يصيبه من ضيق العيش، ويعلم أن وعد اللَّه له في الآخرة خيراً له مما صرف عنه في الدنيا، ولو لم يكن للفقر فضيلة سوى أنه كان حرفة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم واقتداء به لكان عظيماً.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: حدثني الثقة بإسناده عن طاوس عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما قال "بينما رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم جالس وجبريل عليه الصلاة والسلام معه قال جبريل هذا ملك قد نزل من السماء ولم ينزل قط، واستأذن ربه في زيارتك، فلم يمكث إلا قليلا حتى جاء الملك فقال السلام عليك يا رسول الله، فقال: وعليك السلام، قال الملك فإن اللَّه تعالى يخيرك أن يعطيك خزائن كل شيء ومفاتيح كل شيء لم يعطه أحداً قبلك ولا يعطيه أحدا ًبعدك من غير أن ينقصك مما ادخر لك شيئاً أو يجمعها لك يوم القيامة، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم بل يجمعها إليّ يوم القيامة" وعن صفوان بن سليم عن عبد الوهاب ابن بجيد أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: "عرض عليّ بطحاء مكة ذهباً وفضة، قلت يا رب أشبع يوماً وأجوع يوماً فحمدك إذا شبعت وأضرع إليك إذا جعت" وبالله التوفيق.

باب الحرص وطول الأمل

باب الحرص وطول الأمل
(قال الفقيه) أبو الليث السمرقندي رحمه اللَّه تعالى: حدثنا محمد بن الفضل حدثنا محمد بن جعفر حدثنا إبراهيم بن يوسف حدثنا محمد بن الفضل الضبي عن حصيل عن سالم ابن أبي الجعد أن أبا الدرداء رضي اللَّه تعالى عنه قال: ما لي أرى علمائكم يذهبون وأرى جهالكم لا يتعلمون، تعلموا قبل أن يرفع العلم بذهاب العلماء، مالي أراكم تحرصون على ما تكفل اللَّه لكم به وتضيعون ما وكلتم إليه، لأنا أعلم بشراركم من البيطار في الحيل هم الذين لا يؤدون الزكاة إلاّ غرما ولا يأتون الصلاة إلاّ دبرا ولا يسمعون القرآن إلاّ هجرا يعني الترك والإعراض عنه، ولا يعتقون محرريهم.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: الحرص على وجهين حرص مذموم وحرص غير مذموم وتركه أفضل، فأما الحرص الذي هو مذموم فهو أن يشغله عن أداء أوامر اللَّه تعالى أو يريد جمع المال للتكاثر والتفاخر، وأما الذي هو غير مذموم فهو أن لا يترك شيئاً من أوامر اللَّه تعالى لا يحل جمع المال ولا يريد به التفاخر فهذا غير مذموم لأن أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان بعضهم يجمع المال ولم ينكر عليهم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وبين أن تركه أفضل. وقد بين أبو الدرداء رضي اللَّه تعالى عنه في هذا الخبر أن الحرص مذموم إذا ضيع أوامر اللَّه تعالى لأنه قال وتحرصون على ما تكفل اللَّه لكم به: يعني أرزاقكم، فتحرصون على طلبها وتضيعون ما وكلتم إليه: يعني أمر الطاعة. قوله: ولا يعتقون محرريهم: يعني بحرصهم يستعملون الأحرار كما يستعملون العبيد. قال حدثنا أبو الحسين أحمد بن حمدان حدثنا الحسين بن علي الطوسي حدثنا علي بن أبي حرب الموصلي حدثنا محمد بن بشر عن إسمعيل بن أبي خالد عن أخيه عن مصعب بن سعد عن حفصة بنت عمر قالت لأبيها: إن اللَّه قد أكثر لك من الخير ووسع لك من الرزق، فلو أكلت طعاما أطيب من طعامك ولبست ثوبا ألين من ثوبك؟ قال سأحاكمك إلى نفسك، ولم يزل يذكرها ما كان فيه سنة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وكانت فيه حتى أبكاها، ثم قال: إنه كان لي صاحبان سلكا طريقا فإن سلكت طريقا غير طريقهما سُلك بي طريق غير طريقهما، وإني والله سأصبر على عيشهما الشديد لعلي أدرك معهما عيشهما الرخيّ. قال: حدثنا محمد بن الفضل حدثنا محمد بن جعفر حدثنا إبراهيم بن يوسف حدثنا محمد بن الفضل عن مجاهد بن سعيد عن الشعبي عن مسروق قال: قلت لعائشة رضي اللَّه تعالى عنها: يا أماه ما أكثر ما كان يقول رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا دخل البيت؟ قالت أكثر ما سمعته يقول إذا دخل البيت "لو أن لابن آدم واديين من ذهب لتمنى إليهما ثالثا ولا يملأ جوف ابن آدم إلاّ التراب ويتوب اللَّه على من تاب وإنما جعل اللَّه تعالى هذا المال ليقام به الصلاة ويؤتى به الزكاة" وروى عن قتادة عن أنس بن مالك رضي اللَّه تعالى عنه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "يهرم من ابن آدم كل شيء إلاّ اثنتان: الحرص والأمل" وروى عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: أخوف ما أخاف عليكم ثنتان: طول الأمل واتباع الهوى، وإن طول الأمل ينسي الآخرة، واتباع الهوى يصدّ عن الحق. وروى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "أنا زعيم لثلاثة بثلاثة، للمكبّ على الدنيا والحريص عليها والشحيح بها: بفقر لا غنى بعده وشغل لا فراغ منه وهمّ لا فرج معه" وروى عن أبي الدرداء رضي اللَّه تعالى عنه أنه أشرف على أهل حمص فقال: ألا تستحيون؟ تبنون ما لا تسكنون، وتأملون ما لا تدركون، وتجمعون ما لا تأكلون، إن الذين كانوا قبلكم بنوا مشيدا وجمعوا كثيراً وأملوا بعيدا، فأصبحت مساكنهم قبورا وآمالهم غرورا وجمعهم بورا. وروى علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال لعمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه: إذا أردت أن تلقى صاحبك فارقع قميصك، واخصف نعلك، وأقصر أملك، وكل دون الشبع. وروى عن أبي عثمان الهندي أنه قال: رأيت على عمر قميصا فيه اثنتا عشرة رقعة وهو على المنبر يخطب. وروى عن علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه أنه دخل السوق عليه ثياب غليظة غير مغسولة فقيل يا أمير المؤمنين: لو لبست ألين من هذا؟ قال هذا أخشع للقلب وأشبه بشعار الصالحين وأحسن للمؤمن لن يقتدى به. وروى عن أبي ذر رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: إني لأعرف بالناس من البيطار بالدواب، أما خيارهم فالزاهدون في الدنيا، وأما شرارهم فمن أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه. وقال بعض الحكماء: أمهات الخطايا ثلاثة أشياء: الحسد والحرص والكبر، فأما الكبر فكان أصله من إبليس حين تكبر وأبى أن يسجد فلعن، وأما الحرص فكان أصله من آدم عليه السلام حيث قيل له الجنة كلها مباح لك إلاّ هذه الشجرة فحمله الحرص على أكلها حتى سقط منها، والحسد أصله من قابيل بن آدم حين قتل أخاه هابيل فصار كافرا ومأواه النار أبدا. وذكر في الخبر أن آدم عليه الصلاة والسلام أوصى ابنه شيئا عليه الصلاة والسلام بخمسة أشياء، وأمره أن يوصي بها أولاده من بعده أوّلها قال له: قل لأولادك لا تطمئنوا
بالدنيا فإني اطمأننت بالجنة الباقية فلم يرض اللَّه مني وأخرجني منها، والثاني قل لهم لا تعملوا بهوى نسائكم فإني عملت بهوى امرأتي وأكلت من الشجرة فلحقتني الندامة، والثالث: قل لهم كل عمل تريدونه فانظروا عاقبته فإني لو نظرت عاقبة الأمر لم يصبني ما أصابني، والرابع إذا اضطربت قلوبكم بشيء فاجتنبوه فإني حين أكلت من الشجرة اضطرب قلبي فلم ارجع فلحقني الندم، والخامس استشيروا في الأمور فإني لو شاورت الملائكة لم يصبني ما أصابني. وروى عن شقيق البلخي رحمة اللَّه تعالى أنه قال: أخرجت من أربعة آلاف حديث أربعمائة حديث، وأخرجت من أربعمائة حديث أربعين حديثا، وأخرجت من الأربعين حديثا أربعة أحاديث: أولها "لا تعقد قلبك مع المرأة فإنها اليوم لك وغدا لغيرك فإن أطلعتها أدخلتك النار"، والثاني: "لا تعقد قلبك مع المال فإن المال عارية اليوم لك وغدا لغيرك فلا تتعب نفسك بما لغيرك فإن المهنأ لغيرك والوزر عليك، وإنك إذا عقدت قلبك بالمال منعته من حق اللَّه تعالى ودخل فيك خشية الفقر وأطعت الشيطان" والثالث: "اترك ما حاك في صدرك فإن قلب المؤمن بمنزلة الشاهد يضطرب عند الشبهة ويهرب من الحرام ويسكن عند الحلال" والرابع: "لا تعمل شيئاً حتى تحكم الإجابة" وروى مجاهد عن عبد اللَّه بن عمر أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعدّ نفسك من أهل القبور" وقال مجاهد: قال لي عبد اللَّه بن عمر: "إذا أصبحت فلا تحدّث نفسك بالمساء، وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح، وخذ من حياتك قبل موتك، ومن صحتك قبل سقمك، فإنك لا تدري ما اسمك غدا".
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: من قصر أمله أكرمه اللَّه تعالى بأربع كرامات: إحداها أن يقوّيه على طاعته لأن العبد إذا علم أنه يموت عن قريب لا يهتم بما يستقبله من المكروه، ويجتهد في الطاعات فيكثر عمله، والثاني يقل همومه لأنه إذا علم أنه يموت عن قريب لا يهتم بما يستقبله من المكروه، والثالث يجعله راضياً بالقليل لأنه إذا علم أنه يموت عن قريب فإنه لا يطلب الكثرة وإنما يكون همه همّ آخرته، والرابع أن ينوّر قلبه لأنه يقال نور القلب من أربعة أشياء: أوّلها بطن جائع، والثاني صاحب صالح، والثالث حفظ الذنب القديم، والرابع قصر الأمل، فإن من طال أمله عاقبه اللَّه تعالى بأربعة أشياء: أوّلها أن يتكاسل عن الطاعات، والثاني أن تكثر همومه في الدنيا، والثالث أن يصير حريصا على جمع المال، والرابع أن يقسو قلبه، لأنه يقال قسوة القلب من أربعة أشياء: أولها بطن ممتلئ، والثاني صحبة صاحب السوء، والثالث نسيان الذنوب الماضية، والرابع طول الأمل، فينبغي للمسلم ا يقصر أمله فإنه لا يدري في أي نفس يموت، وفي أي قدم يموت قال اللَّه تعالى {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}. قال بعض المفسرين: بأي قدم يموت، وفي آية أخرى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} وقال تعالى {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} فينبغي للمسلم أن يكثر ذكر الموت فإنه لا غنية للمؤمن عن ست خصال: أوّلها علم يدله على الآخرة، والثاني رفيق يعينه على طاعة اللَّه تعالى ويمنعه عن معصيته، والثالث معرفة عدوّه والحذر منه، والرابع عبرة يعتبر بها في آيات اللَّه تعالى وفي اختلاف الليل والنهار، والخامس إنصاف الخلق كيلا يكون له يوم القيامة خصم، والسادس الاستعداد للموت قبل نزوله لكيلا يكون مفتضحا يوم القيامة. قال: وحدثنا محمد بن الفضل بإسناده عن الحسن البصري أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال لأصحابه "أيريد كلكم أن يدخل الجنة؟ قالوا نعم جعلنا اللَّه تعالى فداءك يا رسول الله، قال قصروا الأمل واستحيوا من اللَّه تعالى حق الحياء، قالوا يا رسول اللَّه كلنا نستحي من اللَّه تعالى، قال ليس ذلك بالحياء ولكن الحياء من اللَّه تعالى أن تذكروا المقابر والبلى، وتحفظوا الجوف وما وعى، والرأس وما حوى، ومن يشتهي كرامة الآخرة يدع زينة الدنيا، فهنالك يستحي العبد من اللَّه تعالى حق الحياء" وبها يصيب ولاية اللَّه تعالى. وروى حميد الطويل عن العجلي قال: "قرأ رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم {الهَاكُمْ التَّكَاثُرُ. حَتَّى زُرْتُمْ المَقَابِرَ} فقال: يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت" وقال الحسن البصري رحمه اللَّه تعالى: مكتوب في التوراة خمسة أحرف: الغنية في القناعة، والسلامة في العزلة، والحرية في رفض الشهوات، والمحبة في ترك الرغبة، والتمتع في أيام طويلة بالصبر في أيام قليلة. وروى عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي اللَّه تعالى عنها أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: "يا عائشة إن أردت اللحوق بي فليكفك من الدنيا كزاد الراكب، وإياك ومجالسة الأغنياء، ولا تستخلقي ثوباً حتى ترقعيه" وروى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "اللهم من أحبني فارزقه العفاف والكفاف، ومن أبغضني فأكثر ماله وولده" قال: وحدثني الفقيه بإسناده عن الحسن بن علي قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم "الرغبة في الدنيا تكثر الهمّ والحزن في الدنيا يريح القلب والبدن، وما الفقر أخاف عليكم الغنى أن تبسط لكم الدنيا كما بسطت لمن كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم" وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "صلاح أوّل هذه الأمة بالزهد واليقين وهلاك آخر هذه الأمة بالبخل والأمل".

باب كظم الغيظ

باب كظم الغيظ
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: حدثنا الخليل بن أحمد حدثنا أبو جعفر الدبيلي. حدثنا أبو عبد اللَّه بن عمر.حدثنا سفيان عن عليّ بن زيد أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه تعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم "إن الغضب جمرة من النار فمن وجد ذلك منكم فإن كان قائما فليجلس، وإن كان جالسا فليضطجع" قال: حدثنا محمد بن الفضل حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا إبراهيم بن يوسف حدثنا المسيب عن محمد بن مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه تعالى عنه أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال "إياكم والغضب فإنه يوقد في فؤاد ابن آدم النار ألم ترَ إلى أحدكم إذا غضب كيف تحمرّ عيناه وتنتفخ أوداجه؟ فإذا أحس أحدكم بشيء من ذلك فليضطجع وليلصق بالأرض"، وقال: "إن منكم من يكون سريع الغضب سريع القيء فأحدهما بالآخر" يعني يكون أحدهما بالآخر قصاصاً "ومنكم من يكون بطيء القيء ويكون أحدهما بالآخر، وخيركم من كان بطيء الغضب سريع القيء وشركم من كان سريع الغضب بطيء القيء" وروى أبو أمامة الباهلي رضي اللَّه تعالى عنه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "من كظم غيظا وهو يقدر على أن يمضيه لم يمضه ملأ اللَّه قلبه يوم القيامة رضا" ويقال: مكتوب في الإنجيل: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب، وارض بنصرتي لك فإن نصرتي لك خير من نصرتك لنفسك. وروى عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لرجل أغضبه: لولا أنك أغضبتني لعاقبتك أراد بذلك قول اللَّه تعالى {وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ} وذكر أنه رأى سكران فأراد أن يأخذه فيعزره فشتمه السكران فلما شتمه رجع عمر، فقيل له يا أمير المؤمنين لما شتمك تركته؟ قال لأنه أغضبني فلو عزرته لكان ذلك لغضب نفسي ولا أحب أن أضرب مسلماً لحمية نفسي. وروى عن ميمون بن مهران أن جارية له جاءت بمرقة فعثرت فصبت المرقة عليه فأراد ميمون أن يضربها فقالت الجارية يا مولاي استعمل قول اللَّه تعالى {وَالكَاظِمِينَ الغَيْظَ} فقال قد فعلت، فقالت اعمل بما بعده {وَالعَافِينَ عَنْ النَّاسِ} قال قد عفوت، فقالت اعمل بما بعده {وَاللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ} فقال ميمون أحسنت إليك فأنت حرة لوجه اللَّه تعالى. وروى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "من لم يكن فيه ثلاث خصال لم يجد طعم الإيمان: حِلم يردّ به جهل الجاهل، وورع يحرُزه عن المحارم، وخُلُق يداري به الناس". وذكر عن بعض المتقدمين أنه كان له فرس وكان معجبا به، فجاء ذات يوم فوجده على ثلاث قوائم فقال لغلامه من صنع هذا؟ فقال أنا، قال: لم؟ قال أردت أن أغمك، قال لا جرم لأغمنّ من أمرك به: يعني الشيطان: اذهب فأنت حرّ والفرس لك.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: ينبغي للمسلم أن يكون حليما وصبورا فإن ذلك من خصال المتقين وقد مدح اللَّه تعالى الحليم في كتابه فقال تعالى {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} يعني من صبر على الظلم وتجاوز عن ظالمه وعفا عنه {إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} يعني من حقائق الأمور التي يثاب فاعلها على ذلك وينال أجرا عظيما وقال في آية أخرى {تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ } يعني لا تستوي الكلمة ا لحسنة والكلمة السيئة يعني لا ينبغي للمسلم أن يكافئ كلمة حسنة بكلمة قبيحة ثم قال {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} يعني ادفع الكلمة القبيحة بالكلمة التي هي أحسن {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} يعني إنك إذا فعلت ذلك صار عدوّك صديقا لك مثل القريب وقد مدح اللَّه تعالى خليله إبراهيم عليه السلام بالحلم فقال {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} فالحليم المتجاوز والأواه الذي يذكر ذنوبه ويتأوه، والمنيب الذي أقبل على طاعة اللَّه تعالى، وقد أمر اللَّه تعالى نبيه صلى اللَّه عليه وسلم بالصبر والحلم وأخبره أن الأنبياء الذين كانوا من قبله كانوا على ذلك فقال تعالى {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ} يعني اصبر على تكذيب الكفار وأذاهم كما صبر الأنبياء الذين أمروا بالقتال مع الكفار، وأولو العزم هم ذوو الحزم وهم الذين يثبتون على الأمر ويصبرون عليه، وقال الحسن في قوله تعالى {وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} يعني قالوا حلما وإن جهل عليهم حلموا. وروى عن وهب بن منبه رضي اللَّه تعالى عنه قال: كان عابد في بني إسرائيل أراد الشيطان أن يضله فلم يستطع، فخرج العابد ذات يوم لحاجة وخرج الشيطان معه لكي يجد منه فرصة، فأتاه من قبل الشهوة والغضب فلم يستطع منه على شيء، فأتاه من قبل الخوف وجعل يدلي عليه صخرة من الجبل فإذا بلغته ذكر اللَّه تعالى فنأت عنه، ثم جعل يتمثل بالأسد والسباع فذكر اللَّه تعالى فلم يبال به، ثم جعل يتمثل له بالحية وهو يصلي فجعل يلتوي على قدميه وجسده حتى بلغ رأسه، وكان إذا أراد السجود التوى في موضع رأسه من السجود يعني وجهه فلما وضع رأسه ليسجد فتح فاه ليلتقم رأسه فجعل ينحيه حتى استمكن من الأرض ليسجد، فلما فرغ من صلاته وذهب جاء إليه الشيطان فقال أنا فعلت بك كذا وكذا فلم أستطع منك على شيء وقد بدا لي أن أصادقك ولا أريد ضلالتك بعد اليوم، فقال له العابد: لا اليوم الذي خوّفتني بحمد اللَّه ما خفت منك ولا لي حاجة اليوم في مصادقتك، فقال ألا تسألني عن أهلك ما أصابهم بعدك؟ فقال له العابد أنا متّ قبلهم، فقال ألا تسألني عما أضلّ به بني آدم؟ قال بلى أخبرني بالذي تصل به إلى إضلال بني آدم؟ قال بثلاثة أشياء: الشح والغضب والسكر، فإن الإنسان إذا كان شحيحا قللنا ماله في عينه فيمنعه من حقوقه ويرغب في أموال الناس، وإذا كان الرجل غضوبا أدرناه بيننا كما يدير الصبيان الكرة بينهم ولو كان يحيي الموتى بدعوته لم نيأس منه فإنما يبني ويهدم في كلمة واحدة، وإذا سكر قدناه إلى كل سوء كما تقاد الغنم بأذنها حيث نشاء فقد أخبره الشيطان أن الذي يغضب يكون في يد الشيطان كالكرة في أيدي الصبيان، فينبغي للذي يغضب أن يصبر لكي لا يصير أسير الشيطان ولا يحبط عمله. وذكر أن إبليس جاء إلى موسى صلوات اللَّه وسلامه عليه فقال له أنت الذي اصطفاك اللَّه تعالى برسالته وكلمك تكليما، وإنما أنا خلق من خلق اللَّه تعالى أردت أن أتوب إلى ربك فاسأله ليتوب عليّ، ففرح بذلك موسى عليه السلام فدعا بماء فتوضأ وصلى ما شاء اللَّه تعالى، ثم قال يا رب إن إبليس خلق من خلقك يسألك التوبة فتب عليه، فقيل له يا موسى إنه لا يتوب، فقال يا رب إنه يسألك التوبة فأوحى اللَّه تعالى إني استجبت لك يا موسى فمره أن يسجد لقبر آدم فأتوب عليه، فرجع موسى مسرورا فأخبره بذلك، فغضب من ذلك واستكبر ثم قال: أنا لم أسجد له حيا أأسجد له ميتا، ثم قال يا موسى إن لك حقا عليّ بما تشفعت لي إلى ربك فأوصيك بثلاثة أشياء: اذكرني عند ثلاث خصال: اذكرني حين تغضب فإني في قلبك أجري منك مجرى الدم، واذكرني حين تلقى العدو في الزحف، فإني آتي ابن آدم حين يلقى العدو فأذكره زوجته وأهله وماله وولده حتى يولي دبره، وإياك أن تجالس امرأة ليست بذات محرم منك فإني رسولها إليك ورسولك إليها. وذكر عن لقمان الحكيم أنه قال: يا بني ثلاث لا تعرف إلاّ في ثلاثة: لا يعرف الحليم إلاّ عند الغضب، ولا يعرف الشجاع إلاّ عند الحرب، ولا يعرف الأخ إلاّ عند الحاجة. وذكر أن رجلا من التابعين مدحه رجل في وجهه، فقال له يا عبد اللَّه لم تمدحني: أجرّبتني عند الغضب فوجدتني حليما؟ قال لا، قال أجربتني في السفر فوجدتني حسن الخلق؟ قال لا، قال أجربتني عند الأمانة فوجدتني أمينا؟ قال لا، فقال ويحك ما لأحد أن يمدح أحدا ما لم يجربه في هذه الأشياء الثلاثة. وقال: ثلاثة من أخلاق أهل الجنة ولا توجد إلاّ في الكريم: العفو عمن ظلمك، والبذل لمن حرمك، والإحسان إلى من أساء إليك قال اللَّه تعالى {خُذْ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الجَاهِلِينَ}.
وروى في الخبر أنه لما نزلت هذه الآية قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "ما تفسير هذه الآية؟ فقال له جبريل عليه الصلاة والسلام حتى أسأل العالم، فذهب جبريل ثم أتاه فقال: يا محمد إن اللَّه تعالى يأمرك أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك". وروى عن ابن عجلان عن سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه قال "سبّ رجل أبا بكر الصديق رضي اللَّه تعالى عنه ورسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم جالس فسكت النبي صلى اللَّه عليه وسلم وسكت أبو بكر، فلما سكت الرجل تكلم أبو بكر فقام النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأدركه أبو بكر فقال يا رسول اللَّه سبني وسكت فلما تكلمت قمت؟ فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم إن الملك كان يرد عليه عنك حين سكت فلما تكلمت ذهب الملك وقعد الشيطان فكرهت أن أقعد في مقعد مع الشيطان ثم قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ثلاث كلهن حق: ما من عبد يظلم بمظلمة فيعفو عنها ابتغاء مرضاة اللَّه تعالى إلاّ زاده اللَّه بها عزا، وما من عبد فتح على نفسه باب مسألة يريد بها كثرة إلاّ زاده اللَّه تعالى بها قلة، وما من عبد أعطى عطية يبتغي بها وجه اللَّه تعالى إلاّ زاده اللَّه تعالى بها كثرة". قال: حدثنا أبي بإسناده عن محمد بن كعب القرظي عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال "لكل شيء شرف وإن أشرف المجالس ما استقبل به القبلة" وإنما تجالسون بالأمانة، ولا تصلوا خلف النائم والمحدث، واقتلوا الحية والعقرب وإن كنتم في صلاتكم، ولا تستروا الجدران بالثياب، ومن نظر في كتاب أخيه بغير إذنه فكأنما ينظر في النار، ومن أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على اللَّه تعالى، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق اللَّه تعالى، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد اللَّه تعالى أوثق منه بما في يده، ثم قال: ألا أنبئكم بشراركم؟ قالوا بلى يا رسول اللَّه قال: من أكل وحده،
ومنع رفده، وجلد عبده، ثم قال: ألا أنبئكم بشر من هذا؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: من يبغض الناس ويبغضونه، ثم قال: ألا أنبئكم بشر من هذا؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: من لا يقبل عثرة ولا يقبل معذرة ولا يغفر ذنبا، ثم قال: ألا أنبئكم بشر من هذا؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره، ثم قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: إن عيسى عليه السلام قام في بني إسرائيل فقال يا بني إسرائيل لا تتكلموا بالحكمة عند الجهال فتظلموها ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، وقد قال مرة فتظلموها، ولا تكافئوا ظالما بظلم فيبطل فضلكم عند ربكم، يا بني إسرائيل
الأمور ثلاثة: أمر تبين رشده فاتبعوه، وأمر ظهر غيه فاجتنبوه، وأمر اختلف فيه فردوه إلى اللَّه ورسوله. وقال بعض الحكماء: الزهد في الدنيا أربعة: الأولى الثقة بالله تعالى فيما وعد من أمر الدنيا وأمر الآخرة. والثانية أن يكون مدح الخلق وذمهم عنده واحداً. والثالثة الإخلاص في عمله. والرابعة أن يتجاوز عمن ظلمه ولا يغضب على ما ملكت يمينه ويكون حليما صبورا وروى عن أبي الدرداء رضي اللَّه تعالى عنه أن رجلا قال له علمني كلمات ينفعني اللَّه تعالى بهن؟ قال أبو الدرداء أوصيك بكلمات من عمل بهن كان ثوابه على اللَّه عز وجل والدرجات العلى: لا تأكل إلاّ طيبا، واسأل اللَّه تعالى رزق يوم بيوم، وعدّ نفسك من الموتى، وهب عرضك لله تعالى فمن شتمك أو أذاك فقل وهبت عرضي لله تعالى، وإذا أسأت فاستغفر اللَّه تعالى.
وروى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال " لما كسرت رباعيته في يوم أحد فشق ذلك على أصحابه مشقة شديدة فقالوا يا رسول اللَّه لو دعوت اللَّه تعالى على هؤلاء الذين صنعوا بك ما ترى، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم إني لم أبعث لعانا ولكني بعثت داعيا ورحمة اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون" وقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم "من كف لسانه عن أعراض المسلمين أقال اللَّه تعالى عثرته يوم القيامة، ومن كف غضبه أقال اللَّه تعالى غضبه عنه يوم القيامة" وروى عن مجاهد رضي اللَّه تعالى عنه "أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم مرّ بقوم يربعون حجرا: يعني يرفعون حجرا وينظرون أيهم أقوى، فقال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ما هذا؟ قالوا حجر الأشداء فقال ألا أخبركم بما هو أشد منه؟ قالوا بلى يا رسول اللَّه قال: الذي يكون بينه وبين أخيه شحناء فيغلب شيطانه وشيطان صاحبه فيأتيه حتى يكلمه" وفي رواية أخرى "أنه مرّ بقوم يرفعون الحجر فقال أتعرفون الشدة برفع الحجارة ألا أنبئكم بأشد منكم؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال الذي يمتلئ غضبا ثم يصبر" وذكر عن يحيى بن معاذ أنه قال: من دعا على ظالمه فقد أحزن محمدا صلى اللَّه عليه وسلم في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وسرّ اللعين إبليس في الكفرة والشياطين، ومن عفا عن ظالم فقد أحزن اللعين في الكفرة والشياطين وسرّ محمدا صلى اللَّه عليه وسلم في الأنبياء والصالحين صلوات اللَّه وسلامه عليهم أجمعين. وروى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "ينادي مناد يوم القيامة أين الذين كانت أجورهم على اللَّه عز وجل؟ فيقوم العافون عن الناس فيدخلون إلى الجنة، وسئل الأحنف بن قيس رحمه اللَّه تعالى ما الإنسانية؟ قال التواضع في الدولة والعفو عند المقدرة والعطاء بغير منة". وروى عن عطية عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف إن قيد انقاد وإن
أنيخ على صخرة استناخ".
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: عليكم بالصبر عن الغضب، وإياكم والعجلة عند الغضب، فإن في العجلة ثلاثة أشياء وفي الصبر ثلاثة أشياء، فأما الثلاثة التي في العجلة فأحدها الندامة في نفسه، والثاني الملامة عند الناس، والثالث العقوبة عند اللَّه تعالى. وفي الصبر ثلاثة أشياء: السرور في نفسه، والمحمدة عند الناس، والثواب من اللَّه تعالى، فإن الحلم يكون مرّا في أوله وحلوا في آخره كما قال القائل:
الحلم أوله مر مذاقته …لكن آخره أحلى من العسل …والله أعلم
باب حفظ اللسان
(قال الفقيه) أبو الليث السمرقندي رضي اللَّه تعالى عنه: حدثنا الفقيه أبو جعفر حدثنا أبو القاسم أحمد بن محمد حدثنا محمد بن سلمة حدثنا عبد الأعلى حدثنا يعقوب بن عبد اللَّه القمي عن الليث عن مجاهد عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه تعالى عنه قال "جاء رجل إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال يا رسول اللَّه أوصني؟ قال عليك بتقوى اللَّه فإنها جماع كل خير، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية المسلمين" أو قال وعليك بذكر اللَّه تعالى وتلاوة القرآن فإنه نور لك في الأرض وذكر لك في السماء، واخزن لسانك إلاّ من خير فإنك بذلك تغلب الشيطان".
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: معنى قوله عليه الصلاة والسلام "عليك بتقوى اللَّه تعالى" فتقوى اللَّه أن يجتنب عما نهاه اللَّه عنه ويعمل بما أمره اللَّه تعالى به فإذا فعل ذلك فقد جمع جميع الخير، وقوله عليه الصلاة والسلام "واخزن لسانك" يعني احفظ لسانك إلاّ من خير "يعني قل خيرا حتى تغنم" واسكت حتى تسلم فإن السلامة في السكوت، واعلم أن الإنسان لا يغلب الشيطان إلاّ بالسكوت، فينبغي للمسلم أن يكون حافظا للسانه حتى يكون في حرز من الشيطان ويستر اللَّه عليه عورته. قال: حدثنا حدثنا أبو الحسن أحمد بن حمدان حدثنا الحسين بن علي الطوسي حدثنا محمد بن حسان حدثنا إسحق بن سليمان الرازي عن المغيرة بن مسلم عن هشام عن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما قال: قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم "من لطم عبده كان كفارته عتقه، ومن ملك لسانه ستر اللَّه عليه عورته، ومن كظم غيظه وقاه اللَّه تعالى عذابه، ومن اعتذر إلى ربه قبل اللَّه معذرته" قال: حدثنا محمد بن الفضل حدثنا محمد بن جعفر حدثنا إبراهيم بن يوسف حدثنا يزيد بن زريع عن يونس عن الحسن عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره وليكرم ضيفه وليقل خيرا أو ليسكت" قال: حدثنا محمد بن الفضل حدثنا محمد بن جعفر حدثنا إبراهيم حدثنا يعلى قال: دخلنا على محمد بن سوقة الزاهد فقال ألا أحدثكم حديثا لعله ينفعكم فإنه قد نفعني؟ قال: قال لنا عطاء بن أبي رباح يا ابن أخي إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام وكانوا يعدون كل كلام فضولا ما عدا كتاب اللَّه تعالى أن يقرأه أحد أو أمرا بالمعروف أو نهيا عن المنكر أو تنطق بحاجتك في معيشتك التي لابد لك منها، ثم قال: أتنكرون قوله تعالى {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ. كِرَاماً كَاتِبِينَ} و{عَنْ اليَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ. مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} أو ما يستحبي أحدكم أن لو نشرت عليه صحيفته التي أملاها صدر نهاره وأكثر ما فيها ليس عن أمر دينه ولا دنياه. قال: حدثنا أبي رحمه اللَّه تعالى بإسناده عن أنس بن مالك قال قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: "أربع لا تصير إلاّ في مؤمن: الصمت وهو أول العبادة، والتواضع، وذكر اللَّه تعالى، وقلة الشر" وذكر عن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام بهذا اللفظ. روى أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وذكر عن لقمان الحكيم أنه قيل له ما بلغ بك ما نرى؟ قال: صدق الحديث، وأداء الأمانة، وتركي ما لا يعنيني. وروى عن أبي بكر ابن عياش أنه قال: أربعة من الملوك تكلم كل واحد منهم بكلمة كأنها رمية رميت من قوس واحدة: قال كسرى لا أندم على ما لم أقل وقد أندم على ما قلت، وقال ملك الصين ما لم أتكلم بالكلمة فأنا أملكها فإن تكلمت بها ملكتني، وقال قيصر ملك الروم أنا على ردّ ما لم أقل أقدر مني على ردّ ما قلت، وروى عن الربيع بن خيثم أنه كان إذا أصبح وضع قرطاسا وقلما ولا يتكلم بشيء إلاّ كتبه وحفظه ثم يحاسب نفسه عند المساء.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: هكذا كان عمل الزهاد إنهم كانوا يتكلمون لحفظ اللسان ويحاسبون أنفسهم في الدنيا، وهكذا ينبغي للمسلم أن يحاسب نفسه في الدنيا قبل أن يحاسب في الآخرة، لأن حساب الدنيا أيسر من حساب الآخرة، وحفظ اللسان في الدنيا أيسر من ندامة الآخرة. وروى عن إبراهيم التيمي أنه قال: حدثني من صحب الربيع بن خيثم عشرين سنة فما سمع منه كلمة يعاب بها، وقال موسى بن سعيد لما أصيب الحسين بن عليّ رضي اللَّه تعالى عنهما: يعني قتل، فقال رجل من أصحاب الربيع إن تكلم الربيع فاليوم يتكلم، فجاء حتى فتح الباب وأخبره بأن الحسين قد قتل فنظر إلى السماء فقال: اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ولم يزد على ذلك شيئاً. قال حكيم من الحكماء، ست خصال يعرف بهنّ الجاهل. أحدهما الغضب في غير شيء: يعني غضب على ابن آدم وعلى الحيوان وعلى كل شيء يستقبله منع مكروه فهذا من علامة الجهل، والثاني الكلام في غير نفع، فينبغي للعاقل أن لا يتكلم بكلام لا فائدة له فيه، وينبغي له أن يتكلم بكل كلام فيه منفعة في أمر دنياه وآخرته، والثالث العطية في غير موضع: يعني يدفع ماله إلى من لا يكون له في ذلك أجر وهو علامة الجهل، والرابع إفشاء السر عند كل أحد، والخامس الثقة بكل إنسان، والسادس أن لا يعرف صديقه من عدوّه: يعني أن الرجل ينبغي له أن يعرف صديقه فيطيعه ويعرف عدوّه فيحذره، وأوّل الأعداء هو الشيطان فينبغي أن لا يطيعه فيما يأمره. وعن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أنه قال: كل كلام ليس بذكر اللَّه تعالى فهو لغو، وكل سكوت ليس بفكر فهو غفلة، وكل نظير ليس بعبرة فهو لهو، فطوبى لمن كان كلامه ذكراً لله تعالى وسكوته تفكرا ونظرة وعبرة. وذكر عن الأوزاعي أنه قال: المؤمن يقلّ الكلام ويكثر العمل، والمنافق يكثر الكلام ويقل العمل.
وروى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "خمس لا تكون في المنافق: الفقه في الدين، والورع باللسان، والتبسم في الوجه، والنور في القلب، والمودة في المسلمين" قال يحيى بن أكثم ما صلح منطق رجل إلاّ عرف ذلك في سائر عمله، ولا فسد منطق رجل إلاّ عرف ذلك في سائر عمله. وذكر عن لقمان الحكيم أنه قال لابنه: يا بني من يصحب صاحب السوء لم يسلم، ومن يدخل مدخل السوء يتهم، ومن لا يملك لسانه يندم. وعن سنة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئة" قال: حدثنا أبي رحمه اللَّه تعالى بإسناده عن الحسن البصري أنه قال: كانوا يقولون إن لسان الحكيم من وراء قلبه فإذا أراد أن يقول رجع إلى قلبه فإن كان له قال وإن كان عليه أمسك، وإن الجاهل قلبه على طرف لسانه لا يرجع إلى قلبه ما أتى على لسانه تكلم. قال حدثني أبي رحمه اللَّه بإسناده عن أبي ذر الغفاري أنه قال "قلت يا رسول اللَّه ما كان في صحف إبراهيم؟ قال كان فيها أمثال وعبر: ينبغي للعاقل ما لم يكن مغلوبا في عقله أن يكون حافظا للسانه عارفا بزمانه مقبلا على شانه، فإنه من حسب كلامه من عمله قلّ كلامه إلاّ فيما يعنيه قال: حدثنا الفقيه أبو جعفر بإسناده عن أبي اسحق الهمذاني عن الحرث عن عليّ بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول "ينبغي للعاقل أن لا يكون شاخصا إلاّ في ثلاث: مرمة لمعاشه، أو خلوة لمعاده، أو لذة في غير محرم" وقال "ينبغي للعاقل أن يكون له في النهار أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يأتي فيها أهل العلم الذين يبصرونه بأمر دينه ودنياه وينصحونه، وساعة يخلى بين نفسه ولذاتها فيما يحلّ ويجمل" وقال "ينبغي للعاقل أن ينظر في شأنه: ويعرف أهل زمانه، ويحفظ فرجه ولسانه".
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: وذكر إن هذه الكلمات مكتوبة في حكمة آل داود عليه السلام. وروي عن أنس بن مالك رضي اللَّه تعالى عنه إن لقمان الحكيم دخل على داود النبي صلى اللَّه عليه وسلم وكان داود يسرد الدرع، فجعل يتعجب مما يرى فأراد أن يسأله عن ذلك فمنعته حكمته فأمسك نفسه ولم يسأله، فلما فرغ قام داود عليه السلام فلبس الدرع ثم قال: نعم الدرع للحرب ونعم عامله، فقال لقمان: الصمت حكمة وقليل فاعله.
قال القائل:
النطق زين والسكوت سلامة فإذا نطقت فلا تكن مكثارا
ما إن ندمت على سكوتي مرة ولقد ندمت على الكلام مرارا
وفي موضع: أنه كان يختلف إليه سنة ويريد أن يسأله فلما فرغ منه لبسه، وقال ما أحسن هذا الدرع للحرب، فقال لقمان: الصمت حكمة وقليل فاعله، هذا من كتاب التنبيه. وأما ما بعده من الأبيات فليست من الكتاب. قال بعضهم:
يموت الفتى من عثرة بلسانه وليس يموت المرء من عثرة الرجل
ولآخر:
لا تنطقنّ بما كرهت فربما نطق اللسان بحادث فيكون
ولحميد بن عباس:
لعمرك ما شيء علمت مكانه أحقّ بسجن من لسان مذلل
على فيك مما ليس يعنيك شأنه بقفل وثيق حيث كنت فأقفل
فربّ كلام قد جرى من ممازح فساق إليه سهم حتف معجل
والصمت خير من كلام ممازح فكن صامتا تسلم وإن قلت فاعدل
ولاتك في جنب الأخلاء مفرطا وإن كنت أبغضت البغيض فأجمل
فإنك لا تدري متى أنت مبغض حبيبك أو تهوى بغيضك فاعقل
(قال بعض الحكماء) في الصمت سبعة آلاف خير، وقد اجتمع ذلك كله في سبع كلمات في كل كلمة منها ألف: أولها أن الصمت عبادة من غير عناء، والثاني زينة من غير حليّ، والثالث هيبة من غير سلطان، والرابع حصن من غير حائط، والخامس الاستغناء عن الاعتذار إلى أحد، والسادس راحة الكرام الكاتبين، والسابع ستر لعيوبه. ويقال الصمت زين للعالم وستر للجاهل.
(قال بعض الحكماء) إن جسد ابن آدم ثلاثة أجزاء: فجزء منها قلبه، والثاني لسانه، والثالث الجوارح، وقد أكرم اللَّه تعالى كل جزء بكرامة: فأكرم القلب بمعرفته وتوحيده: وأكرم اللسان بشهادة أن لا إله إلاّ اللَّه وتلاوة كتابه، وأكرم الجوارح بالصلاة والصوم وسائر الطاعات، ووكل على كل جزء رقيبا وحفيظا: فتولى حفظ القلب بنفسه فلا يعلم ما في ضمير العبد إلاّ الله، ووكل على لسانه الحفظة قال اللَّه تعالى {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} وسلط على الجوارج الأمر والنهي، ثم إنه يريد من كل جزء وفاء: فوفاء القلب أن يثبت على الإيمان وأن لا يحسد ولا يخون ولا يمكر، ووفاء اللسان أن لا يغتاب ولا يكذب ولا يكذب ولا يتكلم بما لا يعنيه، ووفاء الجوارح أن لا يعصي اللَّه تعالى ولا يؤذي أحدا من المسلمين، فمن وقع من القلب فهو منافق، ومن وقع من اللسان فهو كافر، ومن وقع من الجوارح فهو عاص. وعن الحسن قال: نظر عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه إلى شاب فقال يا شاب: إن وقيت شر ثلاث فقد وقيت شر الشباب: إن وقيت شر لقلقك يعني لسانك، وذبذبك يعني فرجك، وقبقبك يعني بطنك. وذكر أن لقمان الحكيم كان عبدا حبشيا فأول ما ظهر من حكمته أنه قال له مولاه: يا غلام اذبح لنا هذه الشاة وائتني بأطيب مضغتين منها، فجاء بالقلب واللسان، ثم قال مرة أخرى: اذبح لنا هذه الشاة وائت بأخبث مضغتين منها، فأتاه باللسان والقلب، فسأله عن ذلك فقال ليس في الجسد مضغتان أطيب منهما إذا طابا، ولا أخبث منهما إذا خبثا. وروى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "لما بعث معاذا إلى اليمن فقال يا نبي اللَّه أوصني؟ فأشار إلى لسانه يعني عليك بحفظ اللسان، فكأنه تهاون به، فقال يا نبي اللَّه أوصني؟ قال ثكلتك أمك، وهل يكب الناس في نار جهنم إلاّ حصائد ألسنتهم" وقال الحسن البصري رحمه اللَّه تعالى: من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر
ماله كثر إثمه، ومن ساء خلقه عذب نفسه. وروى عن سفيان الثوري أنه قال: لأن أرمي رجلاً بسهم أحب إليّ أن أرميه بلساني لأن رمي اللسان لا يخطئ ورمي السهم قد يخطئ. وروي عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: إذا أصبح ابن آدم سألت الأعضاء كلها اللسان وقلن يا لسان ننشدك اللَّه أن تستقيم فإنه إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا.. وروى عن أبي ذر الغفاري رضي اللَّه تعالى عنه أنه قام عند الكعبة فقال: ألا من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة الغفاري "أبو ذر" هلموا إلى أخ ناصح شفيق عليكم فاجتمع الناس حوله فقال يا أيها الناس: من أراد منكم سفرا من أسفار الدنيا لا يفعل ذلك إلاّ بزاد فكيف من يريد سفر الآخرة بلا زاد؟، قالوا وما زادنا يا أبا ذر؟ قال صلاة ركعتين في سواد الليل لوحشة القبور، وصوم في حرّ شديد ليوم النشور، وصدقة على المساكين لعلكم تنجون من عذاب يوم عسير، وحج لعظائم الأمور، واجعلوا الدنيا مجلسين مجلسا في طلب الدنيا ومجلسا في طلب الآخرة، والثالث يضر ولا ينفع، واجعلوا الكلام كلمتين: كلمة نافعة في أمر دنياكم وكلمة باقية في أمر آخرتكم، الثالثة يضر ولا ينفع، واجعلوا المال درهمين: درهماً أنفقه على عيالك ودرهماً قدمه لنفسك والثالث يضر ولا ينفع، ثم قال أَوّه قتلتني هم يوم لا أدركه، قيل: وما ذاك: قال إن أملي قد جاوز أجلي فقعدت عن عمل. وذكر عن عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام أنه قال: لا تكثروا الكلام في غير ذكر اللَّه فتقسوا قلوبكم، والقلب القاسي بعيد من اللَّه ولكن لا تعلمون.
(قال بعض الصحابة) إذا رأيت قساوة في قلبك ووهنا في بدنك وحرمانا في رزقك فاعلم أنك قد تكلمت بما لا يعنيك، والله الموفق.

باب الزجر عن الضحك

باب الزجر عن الضحك
(قال الفقيه) أبو الليث السمرقندي رحمه اللَّه تعالى: حدثنا محمد بن الفضل حدثنا محمد بن جعفر حدثنا إبراهيم بن يوسف حدثنا سفيان بن عيينة قال: قال عيسى ابن مريم صلوات اللَّه عليه للحواريين. يا ملح الأرض لا تفسدوا، فإن الأشياء إذا فسدت إنما تداوى بالملح، وإن الملح إذا فسد لم يداو بشيء، يا معشر الحواريين لا تأخذوا ممن تعلّمون أجرا إلاّ كما أعطيتموني، واعلموا أن فيكم خصلتين من الجهل: الضحك من غير عجب والتصبح من غير سهر.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: معنى قوله عليه السلام ملح الأرض: يعني به العلماء فإن العلماء هم الذين يصلحون الخلق ويدلونهم على طريق الآخرة فإذا ترك العلماء طريق الآخرة فمن الذي يدلهم على الطريق وبمن يقتدي الجهال، وقوله لا تأخذوا ممن تعلّمون أجرا إلاّ كما أعطيتموني: يعني أن العلماء ورثة الأنبياء فكمان أن الأنبياء يعلمون الخلق بغير أجر وهو قوله عز وجل {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا المَوَدَّةَ فِي القُرْبَى} وأيضاً قوله تعالى {إِنْ أَجْرِي إِلَّا عَلَى اللَّهِ} فكذلك العلماء ينبغي لهم أن يقتدوا بالأنبياء ولا يأخذوا على تعليمهم أجرا، وأما قوله الضحك من غير عجب: يعني بالضحك القهقهة، وهو مكروه وهو من عمل السفهاء، وأما التصبح من غير سهر يعني أن النوم في أول النهار من غير أن يكون ساهراً بالليل فإن ذلك نوع من الحمق. وقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم "النوم في أول النهار حمق وفي أوسطه خلق وفي أخره خرق" يعني الجهل.
(قال) حدثنا الخليل بن أحمد حدثنا منيع حدثنا ابن زنجويه حدثنا ابن أبي غالب حدثنا هشام حدثنا الكوثر بن حكيم عن نافع عن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما قال "خرج النبي صلى اللَّه عليه وسلم ذات يوم إلى المسجد فإذا قوم يتحدثون ويضحكون فوقف وسلم عليهم ثم قال: أكثر واذكر هادم اللذات، قلنا: وما هادم اللذات؟ قال: الموت، ثم خرج بعد
ذلك مرة أخرى فإذا قوم يضحكون فقال: أما والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" ثم خرج أيضاً فإذا قوم يتحدثون ويضحكون فسلم عليهم ثم قال: إن الإسلام بدا غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء يوم القيامة، فقيل ومن الغرباء يوم القيامة؟ قال الذين إذا فسد الناس صلحوا". قال: حدثنا محمد بن الفضل حدثنا محمد بن جعفر حدثنا إبراهيم بن يوسف حدثنا إسحق بن منصور قال: لما فارق الخضر موسى عليهما السلام قال له عظني؟ قال يا موسى إياك واللجاجة ولا تكن ماشيا بغير حاجة ولا تضحك من غير عجب، و لا تعجب على الخاطئ بخطيئته. وفي بعض الروايات: ولا تعير الخاطئين بخطاياهم وابك على خطيئتك يا ابن عمران.
وروى جعفر بن عوف عن مسعود عن عوف بن عبد اللَّه قال: كان النبي صلى اللَّه عليه وسلم لا يضحك إلاّ تبسما ولا يلتفت إلاّ جميعا: يعني يلتفت بجميع وجهه، ففي هذا الخبر دليل على أن التبسم مباح، وإنما النهي عن الضحك بالقهقهة، فينبغي للعاقل أن لا يضحك بالقهقهة فإن من ضحك قهقهة في الدنيا قليلاً بكى في الآخرة كثيراً، فكيف بمن ضحك في الدنيا كثيراً كيف يكون حاله يوم القيامة، وقد قال اللَّه تعالى {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً } قال الربيع بن خثيم: فليضحكوا قليلاً في الدنيا وليبكوا كثيراً في الآخرة. وعن الحسن البصري في قوله تعالى {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً فِي الدُّنْيَا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً فِي الآخِرَةِ. فِي نَارِ جَهَنَّمَ} وقال الحسن البصري رحمه اللَّه تعالى: يا عجبا من ضاحك ومن ورائه النار، ومن مسرور ومن ورائه الموت. وقيل: مرّ الحسن البصري بشاب وهو يضحك فقال له يا بنيّ: هل جزت على الصراط؟ قال لا، فقال هل تبين لك إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ قال لا، قال ففيم هذا الضحك؟ قال: فما رؤي الفتى ضاحكا بعده قط: يعني أن قول الحسن وقع في قلبه فتاب عن الضحك وهكذا كان العلماء في ذلك الزمان: إنهم كانوا إذا تكلموا بالموعظة وقع كلامهم موقعا لأنهم كانوا يعملون بالعلم فينفع علمهم غيرهم، فأما علماء زماننا فإنهم لا يعملون بعلمهم فلا ينفع علمهم غيرهم. وروى عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما أنه قال: من أذنب ذنبا وهو يضحك دخل النار وهو يبكي. ويقال: أكثر الناس ضحكا في الدنيا أكثرهم بكاء في الآخرة، وأكثرهم بكاء في الدنيا أكثرهم ضحكا في الجنة.
قال يحيى ابن معاذ الرازي رحمه اللَّه تعالى: أربع خصال لم يبقين للمؤمن ضحكا ولا فرحا: همّ المعاد، يعني همّ الآخرة، وشغل المعاش، وغم الذنوب، وإلمام المصائب: يعني ينبغي للمؤمن أن يكون مشغولا بهذه الأشياء الأربعة لتمنعه عن الضحك فإن الضحك ليس من خصال المؤمن، وقد عير اللَّه تعالى أقواما بالضحك فقال {أَفَمِنْ هَذَا الحَدِيثِ تَعْجَبُونَ. وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ. وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} ومدح أقواما بالبكاء فقال تعالى {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ} ويقال غم الأحياء خمسة أشياء، فينبغي لكل إنسان أن يكون غمه في هذه الخمسة: أولها غم الذنوب الماضية لأنه قد أذنب ذنوبا ولم يتبين له العفو فينبغي أن يكون مغموما به مشغولا بها، والثاني أنه قد عمل الحسنات ولم يتبين له القبول، والثالث قد علم حياته فيما مضى كيف مضى ولا يدري كيف يكون الباقي، والرابع قد علم أن اللَّه تعالى دارين ولا يدري إلى أية دارية يصير، والخامس لا يدري أن اللَّه تعالى راض عنه أم ساخط عليه فمن كان غمه في هذه الأشياء الخمسة في حياته فإنه يمنعه عن الضحك، ومن لم يكن غمه في هذه الأشياء الخمسة في حياته فإنه يستقبله بعد الموت خمسة من الغموم: أولها حسرة ما خلف من التركة التي جمعها من الحلال والحرام وتركها لورثته الأعداء، والثاني ندامة تسويف الأعمال الصالحة فيرى في كتابه عملا قليلاً فيستأذن في الرجوع ليعمل صالحا فلا يؤذن له، والثالث ندامة الذنوب فيرى في كتابه ذنوبا كثيرة فيستأذن في الرجوع ليتوب فلا يؤذن له، والرابع يرى لنفسه خصوما كثيرة ولا يتهيأ له أن يرضيهم إلاّ بأعماله، والخامس وجد اللَّه تعالى عليه غضبان ولا يمكنه أن يرضيه، وروى أبو ذر الغفاري رضي اللَّه تعالى عنه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرا، ولو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى ربكم وتبكون، ولو تعلمون ما أعلم ما انبسطتم إلى نسائكم ولا تقاررتم على فرشكم، ولوددت أن اللَّه خلقني يوم خلقني شجرة تعضد". وروى يونس عن الحسن البصري أنه قال: المؤمن بالله تعالى يمسي حزينا ويصبح حزينا، وكان الحسن البصري قلما رأيته إلاّ كرجل أصيب بمصيبة محدثة. وروى في رواية أخرى: أنه ما رؤى الحسن إلاّ كأنه رجع من دفن أمه. وروى عن الأوزاعي في قول اللَّه عز وجل {يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} قال الصغيرة التبسم، والكبيرة القهقهة، يعني أن القهقهة من الكبائر. وروى عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص أنه قال: لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيرا، ولو تعلمون ما أعلم لسجد أحدكم حتى ينقطع صلبه، ولصرخ حتى ينقطع صوته، ابكوا إلى اللَّه تعالى فإن لم تستطيعوا أن تبكوا فتباكوا يعني تشبهوا بالباكين. وروى سفيان بن محمد بن عجلان في حديث يذكره قال: كل عين باكية يوم القيامة إلاّ ثلاثة أعين: عين بكت من خشية اللَّه تعالى، وعين غضت عن محارم اللَّه تعالى، وعين سهرت في سبيل اللَّه تعالى. وقد روى هذا الخبر مرفوعا عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. وروى عن أبي حنيفة رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: ضحكت مرة وأنا من النادمين على ذلك، وذلك أني ناظرت عمرو بن عبيد القدرى، فلما أحسست بالظفر ضحكت فقال لي: تتكلم في العلم وتضحك فلا أكلمك أبدا، وأنا من النادمين على ذلك إذ لو لم يكن ضحكي لرددته إلى قوله فكان في ذلك صلاح العلم. وروى عن محمد بن عبد اللَّه العابد أنه قال: من ترك فضول النظر وفق للخشوع، ومن ترك الكبر وفق للتواضع، ومن ترك فضول الكلام وفق للحكمة، ومن ترك فضول الطعام وفق لحلاوة العبادة، ومن ترك المزاح وفق للبهاء، ومن ترك الضحك وفق للهيبة، ومن ترك الرغبة وفق للمحبة: يعني إذا لم يرغب في أموال الناس أحبوه، ومن ترك التجسس وفق لإصلاح عيوبه، ومن ترك التوهم في صفات اللَّه تعالى وفق للنجاة من الشك والنفاق.
وروى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال " في قوله تعالى {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا} قال: كان تحته لوح من ذهب مكتوب فيه خمسة أسطر: أولها عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف يحزن، وعجبت لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها، وفي الخامس لا إله إلاّ اللَّه محمد رسول الله، وقال ثابت البناني رحمه اللَّه تعالى: كان يقال ضحك المؤمن من غفلته: يعني غفلته عن أمر الآخرة، ولولا غفلته لما ضحك.
وقال يحيى ابن معاذ الرازي رحمه اللَّه تعالى: اطلب فرحا لا حزن فيه بحزن لا فرح فيه: يعني إذا أردت أن تنال الجنة فكن في الدنيا حزينا ولا تكن ضاحكا مسرورا لكي تنال فرح الجنة وهو فرح لا حزن فيه، ويقال ثلاثة أشياء تقسي القلب: الضحك من غير عجب، والأكل بغير جوع، والكلام من غير حاجة. وروى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قال "ويل لمن يكذب ليضحك به الناس، ويل له ويل له ويل له ثلاث مرات" وقال إبراهيم النخعي: إن الرجل ليتكلم بكلمة ليضحك بها من حوله فيسخط اللَّه بها فيصيبه السخط فيعم من حوله، وإن الرجل ليتكلم بكلمة يرضى اللَّه بها فتصيبه الرحمة فتعم من حوله. وروى وائلة بن الأسقع عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس، وكن قنعا تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب" وروى مالك بن دينار عن الأحنف بن قيس أنه قال قال لي عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه: من كثر ضحكه قلت هيبته،ومن مزح استُخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سَقْطه، ومن كثر سقطه قلّ حياؤه، ومن قلّ حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه، ومن مات قلبه كانت النار أولى به.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: وإياك وضحك القهقهة فإن فيه ثمانية من الآفات أوّلها أن يذمك العلماء والعقلاء، والثاني أن يجترئ عليك السفهاء والجهال، والثالث أنك لو كنت جاهلا ازداد جهلك وإن كنت عالماً نقص علمك لأنه روى في الخبر "إن العالم إذا ضحك ضحكة مجّ من العلم مجة" يعني رمى من العلم بعضه. والرابع أن فيه نسيان الذنوب الماضية، والخامس فيه جراءة على الذنوب في المستقبل لأنك إذا ضحكت يقسو قلبك، والسادس أن فيه نسيان الموت وما بعده من أمر الآخرة، والسابع أن عليك وزر من ضحك بضحكك، والثامن أنه يجب له بالضحك بكاء كثير في الآخرة قال تعالى {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} وروى عن أبي ذر رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال في قول اللَّه عز وجل {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً} معناه أن الدنيا قليل فليضحكوا فيها ما شاءوا وإذا صاروا إلى اللَّه بكوا بكاء لا ينقطع فذلك الكثير وهو قوله تعالى {وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.

باب الاحتكار

باب الاحتكار
قال الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمة اللَّه تعالى عليه: حدثنا أبو الحسن الحاكم السردي حدثنا بكر بن المثنى حدثنا هانئ بن النضر حدثنا أحمد بن خالد حدثنا محمد بن اسحق عن محمد بن إبراهيم عن سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد اللَّه العدوي قال: سمعت رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم يقول "لا يحتكر إلاّ خاطئ" وعن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "من احتكر طعاما أربعين يوما فقد برئ من اللَّه تعالى وبرئ اللَّه منه". وروى سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه تعالى عنه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "الجالب مرزوق، والمحتكر ملعون" وإنما أراد بالجالب الذي يشتري الطعام للبيع فيجلبه إلى بلده فيبيعه فهو مرزوق، لأن الناس ينتفعون به فيناله بركة دعاء المسلمين، والمحتكر الذي يشتري الطعام للمنع ويضر بالناس. وروى الشعبي أن رجلا أراد أن يسلم ابنه إلى عمل فاستشار النبي صلى اللَّه عليه وسلم في ذلك: فقال له رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: لا تسلمه إلى حناط يبيع الحنطة، ولا إلى جزار، ولا إلى من يبيع الأكفان. أما الحناط فلأن يلقى اللَّه تعالى زانيا أو شارب خمر خير له من أن يلقى اللَّه تعالى وهو قد حبس الطعام أربعين ليلة، وأما الجزار فإنه يذبح حتى تذهب الرحمة من قلبه، وأما بائع الأكفان فإنه يتمنى لأمتي الموت، والمولود من أمتي أحب إليّ من الدنيا وما فيها".
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: الحكرة أن يشتري الطعام في مصره ويحبسه عن البيع وللناس حاجة إليه فهذا هو الاحتكار الذي نهى عنه، وأما إذا دخل له الطعام من ضيعة أو جلب من مصر آخر فإنه لا يكون احتكارا ولكن لو كان للناس إليه حاجة فالأفضل أن يبيعه وفي امتناعه عن ذلك يكون مسيئا لسوء نيته وقلة شفقته للمسلمين، فينبغي أن يجبر المحتكر على بيع الطعام فإن امتنع من ذلك فإنه يعزر ويؤدب ولا يسعر عليه ويقال له بعه كما يبيع الناس. وروى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "أنا لا أسعر، فإن اللَّه تعالى هو المسعر". وروى عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "الغلاء والرخص جندان من جنود اللَّه تعالى اسم أحدهما الرغبة واسم الآخر الرهبة فإذا أراد اللَّه تعالى أن يرخصه قذف الرهبة في قلوب الرجال فأخرجه من أيديهم فرخص، وإذا أراد اللَّه تعالى أن يغليه قذف الرغبة في قلوب الرجال فحبسوه في أيديهم". وذكر في الخبر: أن عابدا من عباد بني إسرائيل مرّ على كشيب من الرمل فتمنى في نفسه لو كان دقيقا فأشبع بني إسرائيل في به مجاعة أصابتهم، فأوحى اللَّه تعالى إلى نبي فيهم أن قل لفلان أن اللَّه تعالى قد أوجب لك من الأجر ما لو كان دقيقا فتصدقت به "يعني أنه لما نوى نية حسنة أعطاه الأجر بحسن نية وشفقته على المسلمين ورحمة لهم، فينبغي للمسلم أن يكون مشفقاً رحيماً على المسلمين. وذكر أن رجلا جاء إلى عبد اللَّه بن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما فقال له أوصني؟ فقال له عبد اللَّه بن عباس أوصيك بستة أشياء. أولها: يقين القلب بالأشياء التي تكفل اللَّه لك بها، والثاني بأداء الفرائض لوقتها، والثالث بلسان رطب في ذكر اللَّه تعالى، والرابع لا توافق الشيطان فإنه حاسد للخلق، والخامس لا تعمر الدنيا فإنها تخرب آخرتك، والسادس أن تكون ناصحا للمسلمين دائماً.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: ينبغي للمسلم أن يكون ناصحا للمسلمين رحيما بهم فإن ذلك من علامات السعادة وقيل: إن علامات السعادة إحدى عشرة خصلة: أولها أن يكون زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، والثاني أن يكون همته العبادة وتلاوة القرآن، والثالث قلة القول فيما لا يحتاج إليه، والرابع أن يكون محافظا على الصلوات الخمس، والخامس أن يكون ورعا فيما قل أو كثر من الحرام، والسادس أن تكون صحبته مع الصالحين، والسابع أن يكون متواضعا غير متكبر، والثامن أن يكون سخيا وكريما، والتاسع أن يكون رحيما بخلق اللَّه تعالى، والعاشر أن يكون نافعا للخلق، والحادي عشر أن يكون ذاكرا للموت كثيراً. وعلامة الشقاء أيضاً إحدى عشرة خصلة أولها أن يكون حريصا على جمع المال، والثاني أن تكون نهمته في الشهوات واللذات في الدنيا، والثالث أن يكون فحاشا في القول مكثارا، والرابع أن يكون متهاونا في الصلوات، والخامس أن يكون أكله من الحرم والشبهات وصحبته مع الفجار، والسادس أن يكون سيئ الخلق، والسابع أن يكون مختالا متكبرا فخورا، والثامن أن يمنع منفعته من الناس، والتاسع أن يكون قليل الرحمة للمسلمين، والعاشر أن يكون بخيلا، والحادي عشر أن يكون ناسيا للموت: يعني أن الرجل إذا كان ذاكرا للموت فإنه لا يمنع طعامه من البيع ويرحم المسلمين. وذكر عن بعض الزهاد أنه كان في بيته وقر من الحنطة فقحط الناس فباع ما عنده من الحنطة، ثم جعل يشتري لحاجته، فقيل له لو أمسكت ما عندك؟ فقال أردت أن أشارك الناس في غمهم. والله الموفق بمنه وكرمه.

باب الكبر

باب الكبر
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: حدثنا محمد بن الفضل حدثنا محمد بن جعفر حدثنا إبراهيم بن يوسف حدثنا الفضل بن دكين عن مسعر بن كدام عن أبي مصعب عن أبيه عن كعب الأحبار رضي اللَّه تعالى عنه قال: يأتي المتكبرون يوم القيامة ذراً في صور الرجال يغشاهم أو يأتيهم الذل من كل مكان يسلكون في نار من النيران يسقون من طينة الخيال وهي عصارة أهل النار.
(قال رضي اللَّه تعالى عنه) حدثنا محمد بن الفضل حدثنا محمد بن جعفر حدثنا إبراهيم بن يوسف حدثنا سفيان بن مسعر أنه قال: بلغني عن الحسين بن علي رضي اللَّه تعالى عنهما أنه مرّ بمساكين وهم يأكلون كسرا لهم على كساء فقالوا يا أبا عبد اللَّه الغذاء قال فنزل وقال: إنه لا يحب المستكبرين فاكل معهم، ثم قال لهم قد أحببتكم فاجيبوني فانطلقوا معه فلما أتوا المنزل قال لجاريته أخرجي ما كنت تدّخرين. وبهذا الإسناد عن سفيان
عن أبي حازم عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "ثلاثة لا يكلمهم اللَّه يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم، أوّلهم شيخ زان وملك كذاب وعائل مستكبر" يعني الفقير. قال حدثنا الفقيه أبو جعفر حدثنا محمد بن موسى الفقيه الرازي أبو عبد اللَّه حدثنا محمد بن رباح حدثنا يزيد بن هرون عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن عامر العقيلي عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "عرض عليّ أوّل ثلاثة يدخلون الجنة وأوّل ثلاثة يدخلون النار. فأما أوّل ثلاثة يدخلون الجنة: فالشهيد وعبد مملوك لم يشغله رق الدنيا عن طاعة ربه وفقير ضعيف ذو عيال، وأما أوّل ثلاثة يدخلون النار: فأمير مسلِّط وذو ثروة من المال لا يؤتي الزكاة وفقير فخور. وقال إن اللَّه تعالى يبغض ثلاثة نفر وبغضه لثلاثة منهم أشد. أوّلها يبغض الفساق وبغضه للشيخ الفاسق أشد. والثاني يبغض البخلاء وبغضه للغني البخيل اشد. والثالث يبغض المتكبرين وبغضه للفقير المتكبر أشد، ويحب ثلاثة نفر وحبه لثلاثة منهم أشد، يحب المتقين وحبه للشاب التقي أشد. والثاني يحب الأسخياء ويحب الاسخياء وحبه للفقير السخي أشد. والثالث يحب المتواضعين وحبه للمتواضع الغني أشد. وروى عن حبيب ابن أبي ثابت عن يحيى بن جعلة أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر. قال رجل يا رسول اللَّه إني ليعجبني نقاء ثوبي وشراك نعلي وعلاقة سوطي أفهذا من الكبر؟ فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم إن اللَّه تعالى جميل يحب الجمال ويحب إذا أنعم على عبده نعمة أن يرى أثرها عليه، ويبغض البؤس والتباؤس، ولكن الكبر أن يسفِّه الحق ويغمص الخلق". وروي عن الحسن عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "من خفف نعله ورفع ثوبه وعفر وجهه لله في السجود فقد برىء من الكبر" وروي عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "من لبس الصوف وانتعل المخصوف وركب حماره وحلب شاته وأكل مع عياله وجالس المساكين فقد محاصيل اللَّه تعالى عنه الكبر".
وذكر أن موسى صلوات اللَّه وسلامه عليه ناجى اللَّه تعالى فقال: يا رب من أبغض خلقك إليك؟ قال يا موسى من تكبر قلبه وغلظ لسانه وضعف يقينه وبخلت يده. وقال عروة بن الزبير: التواضع أحد مصائد الشرف. وكل ذي نعمة محسود عليها إلاّ التواضع. وقال بعض الحكماء: ثمرة القناعة الراحة وثمرة التواضع المحبة. وذكر أن المهلب بن أبي صفرة كان صاحب جيش الحجاج، فمرّ على مطرف بن عبد اللَّه بن الشخير وهو يتبختر في حلة خز فقال له مطرف: يا عبد اللَّه هذه مشية يبغضها اللَّه ورسوله، فقال المهلب أما تعرفني؟ فقال بلى أعرفك أوّلك نطفة مذرة وآخرك جيفة قذرة وأنت تحمل فيما بين ذلك العذرة، فترك المهلب مشيته تلك. وقال بعض الحكماء: افتخار العبد المؤمن بربه
وعزه بدينه، وافتخار المنافق بحسبه وعزه بماله. وروي عن ابن عمر رضي اللَّه تعالى عنهما عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "إذا رأيتم المتواضعين فتواضعوا لهم وإذا رأيتم المتكبرين فتكبروا عليهم، فإن ذلك لهم صغار ومذلة، ولكم بذلك صدقة". وروى أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "ما تواضع رجل لله إلاّ رفعه اللَّه تعالى". وروي عن عمر رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: رأس التواضع أن تبدأ بالسلام على من لقيت من المسلمين، وأن ترضى بالدون من المجلس، وأن تكره أن تذكر بالبرّ والتقوى.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: اعلم أن الكبر من أخلاق الكفار والفراعنة والتواضع من أخلاق الأنبياء والصالحين لأن اللَّه تعالى وصف الكفار بالكبر فقال {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه يَسْتَكْبِرُونَ} وقال {وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ} وقال {الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} وقال {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المُتَكَبِّرِينَ} وقال {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ المُسْتَكْبِرِينَ} وقد مدح اللَّه عباده المؤمنين بالتواضع فقال {وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً} يعني، متواضعين، ومدحهم بتواضعهم وأمر نبيه صلى اللَّه عليه وسلم بالتواضع فقال {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ المُؤْمِنِينَ} ومدح النبي صلى اللَّه عليه وسلم بخلقه فقال {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} وكان خلقه التواضع لأنه روى في الخبر أنه كان يركب الحمار، ويجيب دعوة المملوك فثبت أن التواضع من أحسن الأخلاق، وكان الصالحون من قبل أخلاقهم التواضع فوجب علينا أن نقتدي بهم رضي اللَّه تعالى عنهم. وذكر عن عمر بن عبد العزيز رحمه اللَّه تعالى أنه أتاه ذات ليلة ضيف فلما صلى العشاء وكان يكتب شيئاً والضيف عنده كاد السراج أن ينطفئ فقال الضيف يا أمير المؤمنين أقوم إلى المصباح فأصلحه؟ قال ليس من مروءة الرجل أن يستعمل ضيفه. قال أفأنبه الغلام؟ قال لا، هي أوّل نومة نامها، فقام عمر وأخذ البطة فملأ المصباح "فقال الضيف قمت بنفسك يا أمير المؤمنين؟ قال ذهبت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر وخير الناس عند اللَّه من كان متواضعا. وروي عن قيس بن أبي حازم أنه قال: لما قدم عمر بن الخطاب إلى الشام تلقاه علماؤها وكبراؤها فقيل اركب هذا البرذون يرك الناس، فقال إنكم ترون لأمر من ههنا، إنما الأمر من ههنا وأشار بيده إلى السماء، خلوا سبيلي. وروي في رواية أخرى أن عمر رضي اللَّه تعالى عنه جعل بينه وبين غلامه مناوبة فكان يركب الناقة ويأخذ الغلام بزمام الناقة ويسير مقدار فرسخ ثم ينزل ويركب الغلام ويأخذ عمر بزمام الناقة ويسير مقدار فرسخ، فلما قربا من الشام كانت نوبة ركوب الغلام فركب الغلام وأخذ عمر بزمام الناقة فاستقبله الماء في الطريق فجعل عمر يخوض في الماء ونعله تحت إبطه اليسرى وهو آخذ بزمام الناقة، فخرج أبو عبيدة ابن الجراح وكان أميرا على الشام وقال يا أمير المؤمنين إن عظماء الشام يخرجون إليك فلا يحسن أن يروك على هذه الحالة، فقال عمر رضي اللَّه تعالى عنه: إنما أعزنا اللَّه تعالى بالإسلام فلا نبالي من مقالة الناس. وذكر عن سلمان الفارسي رضي اللَّه تعالى عنه أنه كان أميراً بالمدينة فاشترى رجل من عظمائها شيئاً فمرّ به سلمان فحسبه علجا فقال: تعال فاحمل هذا، فحمله سلمان فجعل يتلقاه الناس ويقولون: أصلح اللَّه الأمير نحن نحمل عنك، فأبى أن يدفع إليهم فقال الرجل في نفسه: ويحك إني لم أسخر إلاّ الأمير، فجعل يعتذر إليه ويقول لم أعرفك أصلحك الله، فقال انطلق فذهب به إلى منزله ثم قال لا أسخر أحداً أبدا. وروي عن عمار بن ياسر رضي اللَّه تعالى عنه أنه كان أميراً بالكوفة فخرج إلى حانوت العلاف فاشترى منه القت، فربطه البائع وأخذ البائع جانب الحزمة فجعل يمدّ كل واحد منهما يده حتى صار نصف القت في يد هذا ونصفه في يد هذا، ثم جعله على عاتق عمار فذهب به إلى منزله. وروي عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه أنه بعثه عمر بن الخطاب أميرا على البحرين فدخل البحرين وهو راكب على حمار، وجعل يقول: طرّقوا للأمير، طرّقوا للأمير، فهؤلاء أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان خلقهم التواضع وكانوا أعزاء عند الخلق وعند الملائكة وعند اللَّه سبحانه وتعالى.
وروى أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "ما نقص مال من صدقة وما عفا رجل عن مظلمة إلاّ زاده اللَّه تعالى عزا". وروي عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم "أنه كان في بيت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها وبين يديه طبق فيه قديد وهو جاث على ركبتيه يأكل فأتت امرأة بذية ما تبالي لقيت رجلا أو امرأة، فنظرت إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقالت انظروا إليه يجلس كما يجلس العبد، فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: أنا عبد أجلس كما يجلس العبد وأكل كما يأكل العبد، وقال لها: كلي فقالت لا، إلاّ أن تطعمني بيدك فأطعمها، فقالت لا حتى تطعمني من فيك، وكان في فم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم قديدة فيها عصب قد مضغها فأخرجها فأعطاها إياها قال فأخذتها ومضغتها فما هي أن وقعت في بطنها، فغشيها من الحياء حتى ما كانت تستطيع النظر إلى أحد قال، فما سمع منها بعد يومها ذلك بباطل حتى لحقت بالله تعالى". وروى الحسن عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "أوتيت مفاتيح الأرض فخيرت بين أن أكون عبدا نبياً أو نبياً مَلِكاً فأومأ إليّ جبريل أن تواضع وكن عبدا فاخترت أن أكون عبدا نبيا فأوتيت ذلك، وإني أوّل من ينشق عنه الأرض وأوّل شافع" قال ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه: من تواضع تخشعاً رفعه اللَّه تعالى يوم القيامة ومن تطاول تعظما وضعه اللَّه تعالى يوم القيامة. وذكر عن قتادة رحمه اللَّه تعالى أنه قال: ذكر لنا أن نبي اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم كان يقول: "من فارقت روحه جسده" وفي رواية أخرى "من فارق الدنيا وهو بريء من ثلاث دخل الجنة: من الكبر والخيانة والدّين". قال: حدثني أبي رحمه اللَّه تعالى بإسناده عن طلحة بن زيد عن أبي عبد اللَّه بن أبي جعفر قال: دخل علي بن أبي طالب رضي اللَّه تعالى عنه السوق فاشترى قميصين من هذه الكرابيس بستة دراهم، ثم قال لغلامه يا أسود، اختر أيهما شئت؟ فاختار الغلام خيرهما، ولبس عليّ كرم اللَّه وجهه الآخر، ففضل كماه على أطرافه فدعا بالشفرة فقطع كميه وخطب بالناس يوم الجمعة ونحن ننظر إلى تلك الهدب على ظهر كفيه. ورأى رجلاً قد أسبل ثوبه فقال: يا فلان ارفع ثوبك فإنه أبقى لثوبك وأتقى لقلبك وأبقى عليك. وروى أبو هريرة رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "قال تعالى: العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني في واحد منهما ألقيته في النار".
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: "العظمة إزاري. والكبرياء ردائي" يعني أنهما من صفاتي كما في القرآن العزيز الجبار المتكبر فهما صفتان من صفات اللَّه تعالى فلا ينبغي للعبد الضعيف أن يتكبر.

باب الزجر عن الكذب

باب الزجر عن الكذب
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: حدثنا محمد بن الفضل. حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا إبراهيم بن يوسف. حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق بن سلمة عن عبد اللَّه ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال "عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند اللَّه صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند اللَّه كذابا" قال: حدثنا محمد بن الفضل. حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا إبراهيم بن يوسف. حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن زيد عن ابن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه قال: اعتبروا المنافق بثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر. قال عبد اللَّه رضي اللَّه تعالى عنه: وأنزل اللَّه تعالى تصديق ذلك في كتابه قوله تعالى {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّه لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ} إلى قوله: {وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} قال: حدثنا أبو القاسم ابن محمد بن مردويه وحدثنا عيسى خشنام الثوري. حدثنا سويد عن مالك: أنه بلغه أنه قيل للقمان الحكيم ما بلغ بك ما نرى؟ قال صدق الحديث، وأداء الأمانة، وترك ما لا يعنيني. قال: حدثنا أبو القاسم عيسى. حدثنا سويد عن مالك عن صفوان بن سليم أنه قال "قيل يا رسول اللَّه أيكون المؤمن جبانا؟ قال نعم، فقيل له أيكون المؤمن بخيلا؟ قال نعم، قيل له أيكون المؤمن كذابا؟ قال لا" قال: حدثنا محمد بن الفضل. حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا إبراهيم بن يوسف. حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمر عن المطلب بن حنطب عن عبادة ابن الصامت رضي اللَّه تعالى عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال "أضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضوا أبصاركم،
وكفوا أيديكم".
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: قد جمع النبي صلى اللَّه عليه وسلم جميع الخيرات في هذه الأشياء وهي ستة.أولها قال "اصدقوا إذا حدثتم" فقد دخل فيه كلمة التوحيد وغيرها يعني إذا شهد أن لا إله إلاّ اللَّه يكون قوله صادقاً من نفسه ويكون صادقاً في حديثه مع الناس. وقوله "أوفوا إذا وعدتم" يعني الوعد الذي بينه وبين اللَّه تعالى والوعد الذي بينه وبين الناس، فأما الوعد الذي بينه وبين اللَّه تعالى فإنه يثبت على إيمانه إلى الموت، وأما الذي بينه وبين الناس فهو أن يفي بجميع ما وعدهم. وقوله "وأدوا إذا ائتمنتم" فالأمانة على وجهين: أحدهما بينه وبين اللَّه تعالى، والآخر بينه وبين الناس.فأما الذي بينه وبين الله
تعالى فهي الفرائض التي افترضها اللَّه على عباده وهي أمانة اللَّه عنده فوجب عليه أن يؤديها في وقتها. وأما الأمانة بينه وبين الناس فهو أن يأتمنه رجل على ماله أو على قول أو على غير ذلك فيجب عليه أن يفي بأمانته. وقوله "واحفظوا فروجكم" فالحفظ على وجهين: أحدهما أن يحفظ فرجه عن الحرام والشبهة، والثاني أن يحفظ فرجه حتى لا يقع بصر أحد عليه لأن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: "لعن اللَّه الناظر والمنظور إليه" فالواجب على المسلم أن يتعاهد نفسه في وقت الاستنجاء لكيلا ينظر إليه من لا يحل له النظر إليه من الرجال والنساء. وقوله {وغضوا أبصاركم} يعني غضوا أبصاركم عن عورات الناس وعن النظر إلى محاسن المرأة التي لا يحل لكم النظر إليها وعن النظر إلى الدنيا بعين الرغبة كما قال اللَّه تعالى {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} وقوله {وكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ} أي عن الحرام من الأموال وغير ذلك.
وروى عن حذيفة بن اليمان رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: إن الرجل كان يتكلم بالكلمة على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فيصير بها منافقا، وإني لأسمعها من أحدكم في اليوم عشر مرات: يعني الرجل إذا كان يكذب كان ذلك دليلاً على نفاقه. فالواجب على المسلم أن يمنع نفعه من علامات المنافقين، فإن الرجل إذا تعوّد الكذب يكتب عند اللَّه منافقا ويكون عليه وزره ووزر من اقتدى به. قال: حدثنا أبو منصور بن عبد اللَّه الفرائضي بسمرقند بإسناد عن سمرة بن جندب قال "كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم إذا صلى الغداة أقبل علينا بوجهه فقال لأصحابه: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا فيقص عليه ما شاء اللَّه أن يقص رؤياه عليه، وإنه قال لنا ذات غداة: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا؟ فقلنا لا، قال لكني أنا رأيت الليلة: إنه أتاني اثنان وإنهما أخذا بيدي فقالا لي انطلق، فانطلقت معهما فأخرجاني إلى أرض مستوية فأتينا على رجل مضطجع وآخر قائم عليه بصخرة فإذا هو يهوي بالصخرة على رأسه فيثلغ بها رأسه فيتدهده الحجر، فيتبعه ويأخذه فلا يرجع إليه حتى يصح رأسه كما كان فيعود عليه بمثل ذلك، فقلت سبحان اللَّه ما هذا؟ فقالا لي انطلق، فانطلقت معهما حتى أتينا على رجل مستلق على قفاه وإذا آخر قائم عليه بكلّوب من حديد فإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشق شدقه حتى يبلغ إلى قفاه ومنخره، ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ذلك فلا يفرغ منه حتى يصح الجانب الأوّل كما كان فيعود إليه فيفعل به مثل ذلك. قال: قلت سبحان اللَّه ما هذا؟ قالا لي انطلق، فانطلقت حتى انتهينا على بناء رأسه مثل التنور وأسفله واسع. قال: فاطلعت فإذا فيه رجال ونساء عراة فإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أوقد ارتفعوا حتى يكادوا أن يخرجوا فإذا خمدت رجعوا فيها فلما جاءهم ذلك اللهب صوّتوا: يعني صاحوا، فقلت سبحان اللَّه ما هؤلاء؟ قالا لي انطلق فانطلقنا حتى أتينا على نهر معترض فيه ماء أحمر مثل الدم فإذا فيه رجل يسبح وإذا على شاطئ النهر رجل قد جمع حجارة كثيرة قال فيأتيه السابح فيفغر: "أي يفتح" له فاه فيلقمه حجرا. قال: قلت سبحان اللَّه ما هذا؟ فقالا لي انطلق، فأتينا على رجل فإذا هو حوله نار عظيمة يهشها ويسعى حولها فقلت سبحان اللَّه ما هذا؟ فقالا لي انطلق، فانطلقنا فأتينا على روضة فيها من كل نَور الربيع فإذا بين ظهرني الروضة رجل طويل وإذا حول ذلك الرجل ولدن كثيرة من أكثر ما رأيتم قط، فقلت سبحان اللَّه ما هذا؟ قالا لي انطلق، فانطلقنا حتى انتهينا إلى دوحة عظيمة لم أر دوحة أعظم ولا أحسن منها فارتقينا فيها فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن من ذهب ولبن من فضة، فاستفتحنا باب المدينة ففتح لنا فدخلنا فيها فأخرجاني منها فأدخلاني دارا هي أحسن منها وأفضل، فبينما اصعّد بصري فإذا قصر أبيض كأنه ربابة بيضاء ز قالا: ذلك منزلك. قلت ألا أدخله؟ قالا: أما الآن فلا وأنت داخله، ثم قلت إني رأيت هذه الليلة عجبا فما الذي رأيته؟ قالا: أمّا الأول الذي رأيته يثلغ رأسه بالحجر فإنه رجل يأخذ القرآن ثم يرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة،وأمّا الذي يشق شدقه إلى قفاه فإنه رجل يخرج من بيته فيكذب الكذبة فتبلغ الآفاق. وأمّا الذي رأيته مثل التنور فإنهم الزناة والزواني. وأما الذي يسبح في البحر فهو آكل الربا. وأما الذي يسعى حول النار فإنه مالك خازن النار "أي جهنم" وأما الرجل الطويل الذي رأيته في الروضة فإنه إبراهيم عليه السلام: وأما الولدان الذين حوله فكل مولود ولد على الفطرة وأما الدار التي دخلت أوّلا فدار عامة المؤمنين. وأما الدار الأخرى فدار الشهداء وأنا جبريل وهذا ميكائيل، فقال رجل وأولاد المشركين؟ قال وأولاد المشركين أيضاً يكونون عند إبراهيم عليه الصلاة والسلام" وقد جاء في أطفال المشركين أخبار مختلفة. قال بعضهم: يكونون خدماً لأهل الجنة، وبعضهم من أهل النار والله تعالى أعلم.
(وقال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: حدثنا أبو جعفر. حدثنا محمد بن الفضل. حدثنا أبو حذيفة بالبصرة. حدثنا سفيان. حدثنا عبد الرحمن بن عباس قال: حدثني ناس من أصحاب عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: "أصدق الحديث كلام الله، وأشرف الحديث ذكر الله، وشر العمى عمى القلب، وما قلّ وكفى خير مما أكثر وألهى، وشر الندامة ندامة يوم القيامة، وخير الغنى عنى النفس، وخير الزاد التقوى، والخمر جماع الإثم، والنساء حبائل الشيطان، والشباب شعبة من الجنون، وشر المكاسب كسب الربا، وأعظم الخطايا اللسان الكذوب". قال: حدثنا محمد بن الفضل. حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا إبراهيم بن يوسف. حدثنا سفيان بن أبي حصين يبلغ به
إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: "الكذب لا يصلح إلا في ثلاث: في الحرب لأن الحرب خدعة. والرجل يصلح به بين اثنين، والرجل يصلح به بينه وبين امرأته".
وروى عن بعض التابعين أنه قال: أعلم أن الصدق زين الأولياء، وأن الكذب علامة الاشقياء كما بين اللَّه تعالى في كتابه قال اللَّه تعالى {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّه وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ. وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ المُتَّقُونَ. لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} وقد ذم الكاذبين ولعنهم فقال عز من قائل {قُتِلَ الخَرَّاصُونَ} يعني لعن الكذابون {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّه الكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
باب الغيبة
(قال الفقيه) أبو الليث السمرقندي رضي اللَّه تعالى عنه: حدثنا محمد بن الفضل. حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا إبراهيم بن يوسف. حدثنا إسمعيل بن جعفر عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رضي اللَّه تعالى عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا اللَّه ورسوله أعلم. قال إذا ذكرت أخاك بما يكره فقد اغتبته. قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته؟ وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته" يعني قلت فيه بهتانا.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: ذكر عن بعض المتقدمين أنه قال: لو قلت إن فلانا ثوبه قصير أو ثوبه طويل يكون غيبة فكيف إذا ذكرت عن نفسه قال: حدثنا محمد بن الفضل. حدثنا محمد بن جعفر. حدثنا إبراهيم بن يوسف. حدثنا يحيى بن سليم عن سلمان القاضي عن محمد بن الفضيل العابد عن ابن أبي نجيح قال: "بلغنا أن امرأة قصيرة دخلت على النبي صلى اللَّه عليه وسلم فلما خرجت قالت عائشة رضي اللَّه تعالى عنها ما أقصرها فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم اغتبتيها. قالت عائشة ما قلت إلاّ ما فيها. قال: ذكرت أقبح ما فيها" قال: حدثنا محمد بن الفضيل. حدثنا محمد بن جعفر عن إبراهيم. حدثنا عبد الوهاب بن عطاء عن أبي محمد الجماني عن أبي هرون العبدي عن أبي سعيد الخدري رضي اللَّه تعالى عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: "ليلة أسرى بي إلى السماء مررت بقوم يقطع اللحم من جنوبهم ثم يلقمونه ثم يقال لهم كلوا ما كنتم تأكلون من لحم أخيكم، فقلت يا جبريل من هؤلاء؟ قال هؤلاء من أمتك الهمازون اللمازون" يعني المغتابين.
(قال الفقيه) رحمه اللَّه تعالى: سمعت أبي يحكي قال: "كان النبي صلى اللَّه عليه وسلم في المنزل وأصحابه في المسجد من أهل الصُفَّة وزيد بن ثابت يحدثهم بما سمع من النبي صلى اللَّه عليه وسلم من
الأحاديث فأتى النبي صلى اللَّه عليه وسلم بلحم فقالوا لزيد بن ثابت ادخل على النبي صلى اللَّه عليه وسلم وقل إنا لم نأكل اللحم منذ كذا وكذا لكي يبعث إلينا بشيء من ذلك اللحم، فلما قام زيد بن ثابت من عندهم قالوا فيما بينهم إن زيدا قد لقي النبي صلى اللَّه عليه وسلم مثل ما لقينا فكيف يجلس ويحدثنا؟ فلما دخل زيد على النبي صلى اللَّه عليه وسلم وأدّى الرسالة قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم قل لهم قد أكلتم اللحم الآن، فرجع إليهم وأخبرهم به قالوا والله ما أكلنا اللحم منذ كذا، فرجع إليه وأخبره فقال إنهم قد أكلوا الآن فرجع إليهم وأخبرهم فقاموا فدخلوا على النبي صلى اللَّه عليه وسلم فقال لهم الآن قد أكلتم لحم أخيكم وأثر اللحم في أسنانكم فابزقوا حتى تروا حمرة اللحم، فبزقوا الدم فتابوا ورجعوا عن ذلك واعتذروا إليه".
وروى جابر بن عبد اللَّه رضي اللَّه تعالى عنهما قال "هاجت ريح منتنة على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: إن ناسا من المنافقين قد اغتابوا أناسا من المسلمين فلذلك هاجت هذه الريح المنتنة". وقيل لبعض الحكماء ما الحكمة في أن ريح الغيبة ونتنها كانت تتبين على عهد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ولا تتبين في يومنا هذا قال لأن الغيبة قد كثرت في يومنا فامتلأت الأنوف منها فلم تتبين الرائحة وهي النتن، ويكون مثال هذا مثال رجل دخل دار الدباغين لا يقدر على القرار فيها من شدة الرائحة، وأهل تلك الدار يأكلون فيها الطعام ويشربون الشراب ولا تتبين لهم الرائحة لأنه قد امتلأت أنوفهم منها كذلك أمر الغيبة في يومنا هذا. وروى أسباط عن السدي قال: "كان سلمان الفارسي في سفر مع أناس وفيهم عمر رضي اللَّه تعالى عنه فنزلوا منزلا فضربوا خيامهم وصنعوا طعامهم ونام سلمان، فقال بعض القوم ما يريد هذا العبد إلاّ أن يجيء إلى خيام مضروبة وطعام مصنوع؟ ثم قالوا بعد ذلك لسلمان انطلق إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فالتمس لنا إداما نأتدم به، فأتى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فأخبره فقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم أخبرهم أنهم قد ائتدموا، فأخبرهم بذلك فقالوا ما طعمنا بعد، وما كذب النبي صلى اللَّه عليه وسلم عليكم فأتوه؟ فقال لهم النبي صلى اللَّه عليه وسلم: قد ائتدمتم من صاحبكم حين قلتم ما قلتم وهو نائم ثم قرأ عليهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} يعني معصية. قال سفيان: الظن ظنان: ظن فيه إثم وظن ليس فيه إثم، فأما الظن الذي فيه إثم فالذي يتكلم به وأما الظن الذي ليس فيه إثم فما يضمره ولا يتكلم به {وَلَا تَجَسَّسُوا} يقول ولا تطلبوا عيب أخيكم {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} يعني كما تكرهون أكل لحم أخيكم ميتا فكذلك اجتنبوا ذكره بالسوء غائباً.
وروى عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما في هذه الآية {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} قال: نزلت في رجلين من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وذلك أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم ضم مع كل رجلين
غنيين في السفر رجلاً من أصحابه قليل الشيء ليصيب معهما من طعامهما ويتقدمهما في المنازل ويهيئ لهما المنزل وما يصلح لهما وقد كان ضم سلمان إلى رجلين، فنزل منزلا من المنازل ذات يوم ولم يهيئ لهما شيئاً فقالا له اذهب إلى النبي صلى اللَّه عليه وسلم فسل لنا فضل إدام؟ فانطلق فقال أحدهما لصاحبه حين غاب عنهما إنه لو انتهى إلى بئر كذا لقلّ الماء، فلما انتهى إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وبلغه الرسالة قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: قل لهما قد أكلتما الإدام، فأتاهما فأخبرهما فأتياه فقالا ما أكلنا من إدام؟ فقال إني لأرى حمرة اللحم في أفواهكما، فقالا لم يكن عندنا شيء وما أكلنا لحما اليوم، فقال لهما إنكما اغتبتما أخاكما، ثم قال لهما أتحبان أن تأكلا لحما ميتا؟ فقالا: لا، فقال لهما فكما كرهتما أن تأكلا لحما ميتا فلا تغتابا فإنه من اغتاب أخاه فقد أكل لحمه فنزلت {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً}. وروى عن الحسن البصري أن رجلاً قال: إن فلانا قد اغتابك فبعث إليه طبقا من الرطب وقال بلغني أنك أهديت إليّ حسناتك فأردت أن أكافئك عليها فاعذرني فإني لا أقدر أن أكافئك بها على التمام. وذكر عن إبراهيم بن أدهم رحمه اللَّه تعالى أنه أضاف أناسا فلما قعدوا على الطعام جعلوا يتناولون رجلا. قال إبراهيم: إن الذين كانوا قبلنا كانوا يأكلون الخبز قبل اللحم وأنتم بدأتم باللحم قبل الخبز. وذكر عن أبي أمامة الباهلي رضي اللَّه تعالى عنه أنه قال: إن العبد ليعطي كتابه يوم القيامة فيرى فيه حسنات لم يكن عملها، فيقول يارب من أين لي هذا؟ فيقول هذا بما اغتابك الناس وأنت لا تشعر وذكر عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: يا مكذب بخلت بدنياك على أصدقائك وسخوت بآخرتك على أعدائك فلا أنت فيما بخلت به معذور ولا أنت فيما سخوت به محمود. وذكر عن بعض الحكماء أنه قال: الغيبة فاكهة القراء وضيافة الفساق ومراتع النساء وإدام كلاب الناس ومزابل الأتقياء.
وروى أنس بن مالك رضي اللَّه تعالى عنه عن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "أربع يفطرن الصائم وينقضن الوضوء ويهدمن العمل: الغيبة، الكذب، والنميمة، والنظر إلى محاسن المرأة التي لا يحل له النظر اليها، وهن يسقين أصول الشر كما يسقي الماء أصول الشجر، وشرب الخمر يعلو الخطايا". قال كعب الأحبار: قرأت في كتب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن من مات تائبا من الغيبة كان آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصرّا عليها كان أول من يدخل النار. وذكر عن عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام أنه قال لأصحابه أرأيتم لو أتيتم على رجل نائم قد كشفت الريح عن بعض عورته كنتم تسترون عليه؟ قالوا نعم، قال بل كنتم تكشفون البقية. قالوا سبحان اللَّه كيف نكشف البقية؟ قال أليس يذكر عندكم الرجل فتذكرونه بأسوأ ما فيه، فأنتم تكشفون بقية الثوب عن عورته. وروى خالد الربعي قال: كنت في المسجد الجامع فتناولوا رجلا فنهيتهم عن
ذلك فكفوا وأخذوا في غيره ثم عادوا إليه، فدخلت معهم في شيء من أمره فرأيت تلك الليلة في المنام كأني أتاني رجل أسود طويل ومعه طبق عليه قطعة من لحم خنزير، فقال لي كل فقلت آكل لحم الخنزير، والله لا آكله فانتهرني انتهارا شديدا، وقال قد أكلت ما هو شر منه فجعل يدسه في فمي حتى استيقظت من منامي، فوالله لقد مكثت ثلاثين يوما أو أربعين يوما ما أكلت طعاما إلاّ وجدت طعم ذلك اللحم ونتنه في فمي. قال سفيان بن الحصين: كنت جالسا عند إياس بن معاوية فمرّ رجل فنلت منه فقال اسكت، ثم قال لي سفيان هل غزوت الروم؟ قلت لا قال هل غزوت الترك؟ قلت لا قال سلم منك الروم وسلم منك الترك ولم يسلم منك أخوك المسلم. قال: فما عدت إلى ذلك بعد. وروي عن حاتم الزاهد رحمه اللَّه تعالى قال: ثلاثة إذا كن في مجلس فالرحمة عنهم مصروفة: ذكر الدنيا والضحك والوقيعة في الناس. وعن يحيى بن معاذ الرازي قال: ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال لتكون من المحسنين: أحدهما أنك إن لم تنفعه فلا تضره. والثاني إن لم تسره فلا تغمه. والثالث إن لم تمدحه فلا تذمه. وذكر عن مجاهد أنه قال: إن لابن آدم جلساء من الملائكة، فإذا ذكر أحدهم أخاه بخير قالت الملائكة: له ولك مثله، وإذا ذكر أحدهم أخاه بسوء قالت الملائكة: يا ابن آدم كشفت المستور عليه عورته ارجع إلى نفسك واحمد اللَّه الذي ستر عليك عورتك. وذكر عن إبراهيم بن أدهم أنه دعى إلى طعام فلما جلس قالوا إن فلانا لم يجىء، فقال رجل منهم إن فلانا رجل ثقيل فقال إبراهيم إنما فعل هذا بي بطني حين شهدت طعاما اغتبت فيه مسلما، فخرج ولم يأكل ثلاثة أيام. قال بعض الحكماء: إن ضعفت عن ثلاث فعليك بثلاث. إن ضعفت عن الخير فأمسك عن الشر. وإن كنت لا تستطيع أن تنفع الناس فأمسك عنهم ضرك، وإن كنت لا تستطيع أن تصوم فلا تأكل لحوم الناس. وذكر عن وهب المكي أنه قال: لأن أدع الغيبة أحب إليّ من أن تكون لي الدنيا وما فيها منذ خلقت إلى أن تفنى فأجعلها في سبيل اللَّه تعالى، ولأن أغض بصري عما حرم اللَّه تعالى أحب إليّ من أن تكون لي الدنيا وما فيها فأجعلها في سبيل اللَّه تعالى، ثم تلا قوله تعالى {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً}وتلا قوله تعالى {لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية.
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: قد تكلم الناس في توبة المغتاب هل تجوز من غير أن يستحل من صاحبه! قال بعضهم يجوز، وقال بعضهم لا يجوز ما لم يستحل من صاحبه، وهو عندنا على وجهين: إن كان ذلك القول قد بلغ إلى الذي اغتابه فتوبته أن يستحل منه وإن لم يبلغ فليستغفر اللَّه تعالى ويضمر أن لا يعود إلى مثله. وروى أن رجلاً أتى ابن سيرين فقال: إني اغتبتك فاجعلني في حل؟ فقال وكيف أحل ما حرم الله؟فكأنه أشار إليه بالاستغفار والتوبة إلى اللَّه تعالى مع استحلاله منه، فإن لم تبلغ إلى صاحبه تلك الغيبة فتوبته أن يستغفر اللَّه تعالى ويتوب إليه ولا يخبر صاحبه فهو أحسن لكيلا يشتغل قلبه به، ولو أنه قال بهتانا لم يكن ذلك فيه فإنه يحتاج إلى التوبة في ثلاثة مواضع، أحدها أن يرجع إلى القوم الذين تكلم بالبهتان عندهم ويقول إني قد ذكرت عندكم فلانا بكذا وكذا فاعلموا أني كاذب في ذلك. والثاني أن يذهب إلى الذي قال عليه البهتان ويطلب منه أن يجعله في حل. والثالث أن يستغفر اللَّه تعالى ويتوب إليه فليس شيء من الذنوب أعظم من البهتان، فإن سائر الذنوب يحتاج إلى توبة واحدة وفي البهتان يحتاج إلى التوبة في ثلاثة مواضع، وقد قرن اللَّه تعالى البهتان بالكفر فقال تعالى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} ويقال لا تكون الغيبة إلاّ في قوم معلومين حتى لو ذكر أهل مصر من الأمصار فقال هم بخلاء أو قوم سوء لا يكون غيبة لأن فيهم البرّ والفاجر وعلم أنه لم يرد به الجميع والكف عن ذلك أفضل. وذكر عن بعض الزهاد أنه اشترى قطنا لامرأته فقالت المرأة إن باعة القطن قوم سوء قد خانوك في هذا القطن فطلق الرجل امرأته، فسئل على ذلك فقال: إني رجل غيور فأخاف أن يكون القطانون كلهم خصماءها يوم القيامة فيقال إن امرأة فلان تعلق بها القطانون فلأجل ذلك طلقتها. وقال ثلاثة لا تكون غيبتهم غيبة: سلطان جائر وفاسق معلن وصاحب بدعة يعني، إذا ذكر فعلهم ومذهبهم ولو ذكر شيئاً من أبدانهم بعيب فيهم لكان ذلك غيبة ولكن إذ ذكر فعلهم ومذهبهم فلا بأس لكي يحذرهم الناس.
وروي عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال: "اذكروا الفاجر بما فيه لكي يحذره الناس". قال رضي اللَّه تعالى عنه: الغيبة على أربعة أوجه: في وجه هي كفر، وفي وجه هي نفاق، وفي وجه هي معصية، والرابع مباح وهو مأجور. فأما الوجه الذي هو كفر فهو أن يغتاب المسلم فيقال له لا تغتب فيقول ليس هذا غيبة وأنا صادق في ذلك فقد استحل ما حرم اللَّه تعالى ومن استحل ما حرم اللَّه تعالى صار كافرا نعوذ بالله. وأما الوجه الذي هو نفاق فهو أن يغتاب إنساناً فلا يسميه عند من يعرف أنه يريد منه فلانا فهو يغتابه ويرى من نفسه أنه متورع فهذا هو النفاق. وأما الذي هو معصية فهو أن يغتاب إنسانا ويسميه ويعلم أنها معصية فهو عاص وعليه التوبة. والرابع أن يغتاب فاسقا معلنا بفسقه أو صاحب بدعة فهو مأجور لأنهم يحذرون منه إذا عرفوا حاله. وروى عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم أنه قال "اذكروا الفاجر بما فيه لكي يحذره الناس".
(قال الفقيه) رضي اللَّه تعالى عنه: سمعت أبي يحكي أن الأنبياء الذين لو يكونوا مرسلين عليهم الصلاة والسلام بعضهم كانوا يرون في المنام وبعضهم كانوا يسمعون
الصوت ولا يرون شيئاً، وكان نبي من الأنبياء ممن يرى في المنام رأى ذات ليلة في المنام قيل له: إذا أصبحت فأول شيء يستقبلك فكله والثاني اكتمه والثالث اقبله والرابع لا تؤيسه والخامس اهرب منه، فلما أصبح أوّل شيء استقبله جبل أسود عظيم فوقف وتحير وقال أمرني ربي أن آكله أآكل هذا، ثم رجع إلى نفسه وقال إن ربي لا يأمرني بما لا أطيق فلما عزم على أكله ومشى إليه ليأكله فلما دنا منه صغر ذلك الجبل فلما انتهى إليه وجده لقمة أحلى من العسل فأكله وحمد اللَّه تعالى، ومضى فاستقبله طست من ذهب وقال أمرت بأن أكتمه فحفر بئرا في الأرض ودفنه فيها ومضى والتفت فإذا الطست فوق الأرض فرجع مرتين أو ثلاثا وهو يدفنه فيها ومضى فالتفت فإذا هو على وجه الأرض، قال إني فعلت ما أمرت به، فذهب فاستقبله طائر خلفه بازي يريد أن يأخذه فقال: يا نبي اللَّه أغثني فقبله وجعله في كمه فجاء البازي فقال: يا نبي اللَّه إني كنت جائعاً وإني كنت في طلب هذا الصيد من منذ الغداة حتى أردت أن أخذه فلا تؤيسني من رزقي، فقال في نفسه إني قد أمرت أن أقبل الثالث وقد قبلته، وقد أمرت أن لا أويس الرابع والرابع هذا البازي فكيف أصنع فلما تحير في ذلك أخذ السكين وقطع من فخذ نفسه قطعة من لحم فرمى بها إلى البازي حتى أخذها ومضى ثم أرسل الطائر ومضى، فرأى الخامس جيفة منتنة فهرب فلما أمسى قال يا رب إني قد فعلت ما أمرتني فبين لي ما كان من أمر هذه الأشياء، فرأى في منامه أنه قيل له: أما الأوّل الذي أكلته فهو الغضب يكون في الأوّل كالجبل وهو في آخره إذا صبر وكظم غيظه أحلى من العسل. والثاني فهو من عمل حسنة فإن كتمه فإنه يظهر. والثالث من ائتمنك بأمانة فلا تخنه. . وأما الرابع فإذا سألك إنسان حاجة فاجتهد في قضائها وإن كنت محتاجا إليها. والخامس الغيبة فاهرب من الذين يغتابون الناس، والله تعالى أعلم.

More

About Template